ما إن تدخل دمشق حتى ينهمر عليك الحزن من كلّ حدب وصوب. لا ترى في وجوه الناس سوى الهمّ، ولا تقرأ في عيونهم إلّا القلق. أمّا فرحة الانتصار وضحكة الحرّية فهي على الرغم من اتّساعها تظلّ أضيق من شظف عيشها ومن قهرها المستدام، بعدما أمعن النظام السابق فتكاً بأهلها، وحرماناً مطلقاً حتّى من أبسط مقوّمات الحياة.
دمشق ساحرة وأنت تهبط إليها من قاسيون، ذاك الجبل الخجول المتسلّق على كتفيها. يحرسها ويحميها. يُدلّلها ويُدنيها. ويسهر على تراميها مذ كانت أوّل مدينة مأهولة طلعت عليها الشمس.
الشام في قاسيون لا فوق فوقها سوى عصافير تسرح في صحن السماء. ثمّ حين تنزل إلى أزقّتها، تدرك أن لا تحت تحتها، بعدما لامست قاع القعر السحيق.
الناس هنا في دمشق باتت مجبولة بالحزن والقهر والقلق. حتّى الضحكات العابرة تكاد لا تعبر الأسارير المقبوضة والوجوه المحشوّة بالوجع. كلّ شيء في دمشق يُحدّثك عن ذاته: سيّارات مترهّلة يكسوها الغبار. مؤسّسات وشركات على شاكلة خردة أو ركام. أبنية منزوعة الروح. شوارع تُكابد لترتعش. بيوت يجتاحها الصقيع. وقلوب مذعورة ومكلومة ومثكولة ليس يكفيها كلّ دفء العالم أو سكينته. الفجيعة هنا تُلمس لمساً باليدين. ويكاد كلّ من يحجّ إليها أن يرتشف من خاطرها المكسور ما يعيش في ذاكرته العميقة إلى الأبد.
الشام في قاسيون لا فوق فوقها سوى عصافير تسرح في صحن السماء. ثمّ حين تنزل إلى أزقّتها، تدرك أن لا تحت تحتها، بعدما لامست قاع القعر السحيق
خرجنا أحياء… لكن مصابين
يقول صاحب مطعم عتيق في حيّ من أحياء الصالحيّة: نحن نقطن منذ عقدٍ ونيّف في سجن كبير. ممنوع علينا أن نتجوّل في مدينتنا. لا كهرباء ولا غاز ولا مازوت ولا بنزين. لا دفء في بيوتنا ولا مياه ساخنة للاستحمام. نعيش من قلّة الموت. لقد ضاقت علينا دمشق بما رحبت. حتّى قاسيون، متنفّس المدينة وأهلها، أغلقه ماهر الأسد ودجّج كلّ الطرقات إليه بالحواجز والعسس والشبّيحة والمخابرات.
يستكمل وصف المكان بيديه: هذا يا سيّدي مطعمي المفتوح منذ نصف قرن. وهذا أنا وقد بلغت شتاء العمر. وهذه المقبرة التي تحتضن جثامين من نحبّ. وهذه شامنا التي لفظت آخر أنفاسها. لقد قبضوا على رقبتها وعلى رقابنا. صحيح أنّنا خرجنا من فم هؤلاء ونحن أحياء. لكنّنا مصابون بما لا يحتمله أحد على وجه هذه البسيطة.
تجوّلنا معه في المدينة، في أحيائها القديمة، في أسواقها، في شوارعها. كلّ زاوية تبعث على الكآبة وعلى الحزن. تنظر في عيون الناس وفي أحوالهم فلا تجد فيها إلّا ما يُعيدك إلى مربّع الهول. وكأنّ هذه البلاد كانت مدفونة على مدى سنوات طويلة، ثمّ جاء من يرفع الحجر الثقيل عن قبرها الضيّق وعن ناسها المُثقلين بكلّ عذابات الأرض.
الشام التي في مخيالنا لا تشبه تلك المصلوبة على درب حرّيتها، وقد زنّر الجزّار جسدها المدمى بكلّ مسامير العالم
غبارٌ… وها قد أمطرت
من ساحة الأمويّين وساحة العبّاسيين إلى ساحة المرجة، ومنها إلى أحياء المالكي والمزّة وكفرسوسة والشعلان والشام العتيقة وسوق الحميدية ومسجد بني أميّة الكبير، وصولاً إلى دمشق الكبرى، وإلى الأحياء الكاملة التي استحالت ركاماً. جولة سريعة جدّاً قد لا تدركها العين ولا يكفيها نصّ أو قصيدة. لكنّها تترك أثراً بالغاً في القلب بعد الغياب الطويل. فالشام التي في مخيالنا لا تشبه تلك المصلوبة على درب حرّيتها، وقد زنّر الجزّار جسدها المدمى بكلّ مسامير العالم.
نعود من دمشق الحزينة حتّى الموت وقد أخذنا معنا من حزنها ما تيسّر وما يفيض. نسلك طريقها السريع إلى بيروت. نستحضر ذاكرتنا الطريّة وجرحنا المشترك، من فرع فلسطين إلى عنجر، ومن القابون وجوبر إلى أضرحتنا وقبورنا التي امتلأت بجثث الرجال. نبتلع الغصّة المحشورة في حناجرنا: هذه دمشق وقد سحقت جزّارها. هذه بيروت وقد استعادت شهيقها. هنا الجانب الممتلئ من كأسنا المرّ. وهنا الحقيقة التي تتجاوز كلّ شيء. وما دون ذلك مجرّد غبار ما يلبث أن يلتصق بالأرض عند أوّل زخّة مطر. وها قد أمطرت.
إقرأ أيضاً: سوريا: 10 أيّام غيّرت وجه الشرق الأوسط
لمتابعة الكاتب على X: