لا شيء كان يوحي في الأشهر العشر الأولى من عام 2024، أنّ شيئاً قد يتغيّر في سوريا. دخل البلد حالة ستاتيكو، حتّى لو شابتها اختلالات أمنيّة متنوّعة الظروف والأسباب. لا شيء كان يوحي بما يمكن أن يتهدّد نظام بشّار الأسد. دخلت المعارضة في مرحلة الخفوت والانكفاء. ارتفع مستوى الإهمال الدولي للقضيّة السورية. احترمت القوى الأجنبية التي تنتشر في سوريا، خطوطاً وخرائط وقواعد اشتباك. اكتفى النظام بما أتاحته له اتّفاقات خفض التصعيد وآليّة أستانا الثلاثية من سيطرة ونفوذ، وسعى بدأب إلى قضم الممكن وتأجيل المستحيل.
بدا العام 2024 حاضناً لمسار تعويم نظام بشار الأسد. وباتت عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية من المكتسبات النهائية. عاد رئيس النظام لحضور مؤتمرات القمّة مزهوّاً بالتواصل مع نظرائه. يختار الصمت أحياناً أو يعود إلى متعته في إعطاء المحاضرات في الصمود والمقاومة والعناد.
على هذا الأساس، زار دمشق في العام الفائت موفدون، بشكل سرّي أو علنيّ. وفتحت سفارات عربية أبوابها في دمشق. ونشط تواصل خلفيّ أجرته عواصم أوروبية مع دمشق. فكان أن طلبت 8 دول عضوة في الاتّحاد الأوروبي من منسّق السياسة الخارجية آنذاك، جوزيب بوريل، البحث عن مقاربة خلّاقة لإعادة التواصل مع النظام. كذلك عيّنت إيطاليا سفيراً لها في العاصمة السوريّة، مفتتحةً مسار تطبيع أوروبي مع النظام السوري ولو بعد حين.
لا شيء كان يوحي في الأشهر العشر الأولى من عام 2024، أنّ شيئاً قد يتغيّر في سوريا
أوروبا نحو اليمين.. ردّاً على اللاجئين
لم يتغيّر الموقف الرسمي لكلّ المنظومة الغربية الرسمية. ترفض أوروبا والولايات المتحدة والدول الأخرى أيّ تعويم للنظام، وأيّ تطبيع للعلاقات معه، قبل تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر عام 2015. تشترط حواراً ودستوراً وعملية سياسية انتقالية قبل فتح ملفّ تمويل إعادة الإعمار واللاجئين. لكنّ الموقف الرسمي الغربي بدا بليداً لا يغيّر موقع البيادق على رقعة اللعب.
إذ فيما الشعب السوري يدفع كلفة العقوبات على سوريا، كانت أوروبا تعاني جدلاً خطيراً بشأن ظاهرة اللجوء السوري في بلدانها. ما أيقظ شياطين التيارات الشعبوية، ورفع من النتائج الانتخابية لأحزاب اليمين المتطرّف، التي بدأت تتقدّم باتّجاه هياكل الحكم هنا وهناك.
في الأشهر العشر الأولى لعام 2024، نسي الرئيس الأميركي جو بايدن بلداً اسمه سوريا. لم يرد ذكر سوريا على لسانه منذ دخوله البيت الأبيض، ولم يكن البلد جزءاً من السياسة الخارجية لواشنطن. كان بايدن نائباً للرئيس الأسبق باراك أوباما حين غضّ الطرف عن خطوط حمر تجاوزها نظام دمشق، باستخدام السلاح الكيمياوي ضدّ الغوطة بريف دمشق عام 2013. بعد عامين التقى نظيره الروسي فلاديمير بوتين في أيلول 2015 على هامش الاجتماع السنوي لأعمال الجمعية العامّة للأمم المتحدة في نيويورك. بعد ساعات من هذا الاجتماع بدأت المقاتلات الروسية هجومها ضدّ المعارضة في سوريا في 30 من ذلك الشهر.
زار دمشق في العام الفائت موفدون، بشكل سرّي أو علنيّ. وفتحت سفارات عربية أبوابها في دمشق. ونشط تواصل خلفيّ أجرته عواصم أوروبية مع دمشق
لم يكن نظام سوريا يخشى الغارات المكثّفة التي كانت إسرائيل تشنّها في سوريا. لم يقلق حين دمّرت هذه الغارات مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة. بدا محصّن المصير، يلعب على حبال احتضان عربي رسمي يشجّعه على الابتعاد عن طهران، وحبال دعم روسي إيراني متنافس على حمايته. أجاد النأي بالنفس عن حدث “طوفان الأقصى”. حافظ على موقع سوريا داخل “محور المقاومة” الذي تقوده إيران من غير أكلاف. تدخّلت موسكو لدى طهران لإعفاء سوريا من واجباتها، فوافقت إيران على ذلك، وأصدر زعيم الحزب الراحل شهادة الإعفاء من لبنان خلال خطاب أثناء الحرب على لبنان.
إدلب تخرج من “القمقم”
في عام 2024 لم يكن الحديث عن “هيئة تحرير الشام” يقوم إلّا في هامش الأخبار لا أبوابها. لم يكن تناول سيرة أبي محمد الجولاني يجري إلّا من خلال مساحات عرضية ضيّقة. قلّما اهتمّت العواصم المعنيّة بأخبار إدلب. ذلك أنّها مساحة جرى تجميع مقاتلي المعارضة من كلّ المحافظات داخلها حتى تنقطع أخبارهم. قلّما عرف العالم عن مؤسّسات قامت هناك وعن حكومة تسيّر يوميّات المكان. وحتى لم يلقَ ما يصدر من هناك من وعود بشأن سوريا وخطط المعارضة ضدّ النظام اهتماماً كبيراً. بدا أنّ التصنيف الإرهابي لـ”هيئة تحرير الشام” وضع إدلب في قمقم لم تخرج منه إلا حين تقرّر الخروج منه واستعادة سوريا وتحريرها.
في الأشهر الأخيرة من عام 2023 فجّر “الطوفان” في 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) موجات زلزالية في الشرق الأوسط. يتسرّب من غموض تلك العملية بعد مقتل معظم قادتها، أنّ نتائجها كانت خارج ما كان مخطّطاً، وأنّها خرجت عن السيطرة. وفي الأشهر الأخيرة من عام 2024، في 27 تشرين الثاني، فجّرت عملية “ردع العدوان” زحفاً مازال العالم بأجمعه، ومن ضمنه مَن خطّط ونفّذ العملية، يعتبر نتائجه مفاجئةً، ولم يطمح إلى سقوط دمشق ونظامها بعد عشرة أيّام وإن كان ذلك من أغلى الأمنيات.
لم يكن نظام سوريا يخشى الغارات المكثّفة التي كانت إسرائيل تشنّها في سوريا. لم يقلق حين دمّرت هذه الغارات مبنى القنصلية الإيرانية في العاصمة
فشل المبادرة التركية
قبل ذلك، وطوال أشهر ذلك العام، تكثّفت مبادرات تركيا لتطبيع العلاقات مع نظام دمشق. قيل إنّ للأمر دوافع كثيرة، أهمّها تآكل شعبية حزب “العدالة والتنمية” وزعيمه الرئيس رجب طيب إردوغان، بسبب أزمة اللجوء السوري، وما توفّره من حجج للمعارضة ظهرت ثمارها في الانتخابات الأخيرة.
قيل أيضاً إنّ الدافع أمنيّ مرتبط بخطر وجود كيان كردي شمال سوريا على الحدود مع تركيا اتُّهم بأنّه امتداد لـ”حزب العمّال الكردستاني” PKK المصنّف إرهابياً. قال الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، في تشرين الأوّل الماضي، أثناء عودته من اجتماع دول “بريكس” في قازان في روسيا، إنّه يتمنّى أن ينجح نظيره الروسي في رأب صدع العلاقات بين أنقرة ودمشق. كان الأسد يرفض لقاء إردوغان قبل انسحاب القوات التركية من سوريا، ويرفض أن يحقّق اللقاء أمنية إردوغان بالصلاة في الجامع الأموي في العاصمة. كانت أنقرة تعرف أنّ لذلك الرفض عبقاً إيرانيّاً.
إقرأ أيضاً: 2024: زلزال دمشق وصحوة الإسلام السّنّيّ
في 8 كانون الأوّل 2024 هرب الأسد من قصره وزعامته ونفوذه. دخل السوريون عصر الحرّية. خرج أحمد الشرع من عباءة أبي محمد الجولاني، وبات يقود البلاد نحو مستقبل أفضل مهما كان مجهولاً. وفيما يلجأً رئيس النظام الساقط إلى روسيا، تستقبل دمشق زوّار العالم، ومنهم إردوغان، للصلاة في مسجدها التاريخي الأمويّ العريق. في ذلك العام استيقظت سوريا على فجر جديد، واستيقظ العالم على وجه آخر للشرق الأوسط.
لمتابعة الكاتب على X: