قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى، فاختاروا الفوضى سنتين إضافيّتين إلى أن أُخرج ميشال عون من قصر بعبدا. الآن تواجه الدول المجاورة والقريبة كما الدول الكبرى وضعاً مشابهاً، في سوريا. إذ إنّها لا تحتمل وقوع الفوضى في هذا البلد البالغ الأهمّية بجغرافيّته السياسية لما لها من آثار مدمّرة على المنطقة، وعلى الأمن والسلام الدوليَّين. ولذلك هي مضطرّة نوعاً ما إلى الرهان على القيادي الجهادي السابق أحمد الشرع، والتفاؤل بتصريحاته المسبوكة والمنحوتة جيّداً بما يشنّف الآذان ويُبهج النفوس، وكأنّنا عمليّاً أمام معادلة: “أحمد الشرع أو الفوضى”، ليس بطريقة مورفي في تلك الأيّام الحرجة من تاريخ لبنان، بل كأنّ الشرع نفسه من يطرح على العالم هذه المعادلة، فإمّا التعامل معه أو الطوفان.
المعتدل بين متطرّفين
لم يجد الأميركيون ولا الأوروبيون طريقاً آخر سوى الاتّصال بالقائد العسكري لسوريا ما بعد الأسد، للتعرّف على الرجل الذي أسقط النظام في 11 يوماً فقط، وللاستماع إلى أفكاره ومواقفه. بل إنّ الأعداء الألدّاء للمعارضة السورية، ولهيئة تحرير الشام على وجه الخصوص، روسيا وإيران، يتحدّثون الآن عن الشرع بلغة مختلفة:
– إمّا خضوعاً للأمر الواقع الجديد، الذي من الصعب الانقلاب عليه، ويبدو أنّ الأسلم في هذه المرحلة محاولة الحفاظ على بعض مصالحهم في سوريا بالحُسنى لا بالتهديد.
– أو تحضيراً لمرحلة تالية قد تشهد تقارباً حقيقياً مهما كان محدوداً مع حاكم سوريا حاليّاً، الذي سيكون له دور مؤثّر في قابل الأيام.
في معركة ردع العدوان، تمكّن الشرع من احتلال موقع سياسي متقدّم على كلّ رفاق السلاح في المعارضة السورية السابقة
الجولاني نفسه، الذي عاد إلى اسمه الحقيقي، لا شخص آخر أقوى منه الآن، من بين كلّ قادة المعارضة. وليس ذلك فقط لأنّه يقف على رأس أقوى تنظيم مسلّح بين الفصائل السورية الأخرى، بل لأنّ الجولاني هو الشخصية الوحيدة الباقية من بين قادة الفصائل ذوي الشعبية والتأثير. وهو نفسه له كارهون كُثُر في ما كان يُسمّى بـ “المحرَّر”، أو الجيب الذي انحشر فيه ملايين النازحين لسنوات. وكثير من القيادات الميدانية والسياسية استهلكتها السنوات الماضية، منهم من قُتل بغارات جوّية، أو باغتيالات نفّذها تنظيم داعش، ومنهم من تجاوزتهم الأحداث، لا سيما المعارضة السياسية، أو همّشها الشرع نفسه.
في معركة ردع العدوان، تمكّن الشرع من احتلال موقع سياسي متقدّم على كلّ رفاق السلاح في المعارضة السورية السابقة، سواء أكانوا في “هيئة تحرير الشام” أم في التشكيلات العسكرية التابعة لتركيا، تدريباً وتمويلاً وتسليحاً (الجيش الوطني)، أم في الجماعات الإسلامية التي تضاءل حجمها التنظيمي والعسكري مع الوقت أم في التشكيلات السياسية للمعارضة، من هيئة ائتلاف، وهيئة تفاوض، ومنصّات سياسية مختلفة، بعدما أضحى فجأة هو الأكثر اعتدالاً من كلّ المعارضين للنظام في التعاطي مع أتباع النظام السابق، فضلاً عن البيئات الشعبية الحاضنة له، التي منها خرج زبانية النظام من محقّقين وجلّادين في السجون والأفرع الأمنيّة.
لقد أعطى الشرع الأمان لجميع الضبّاط والجنود الذين ألقوا السلاح، وللموظّفين في الإدارات الحكومية، والمتعاملين مع النظام والمستفيدين منه، ما عدا الذين ارتكبوا الجرائم، وعذّبوا المعتقلين وقتلوهم. وهذا موقف بالغ الصعوبة، ويزداد صعوبة مع كلّ اكتشاف لمقبرة جماعية، وكلّما سرت رواية جديدة ومفزعة عن الجرائم التي ارتُكبت، وعن فظاعات وأهوال، لا يمكن سماعها فضلاً عن معايشتها.
التّفاوض مع الشّرع
لكنّ ما الذي تملكه الولايات المتحدة خاصة من أوراق بإزاء الواقع الجديد، وفي التعامل البراغماتي مع الرجل الذي وضعته على لائحة الإرهاب قبل 11 سنة، وخصّصت جائزة لمن يُرشد إليه قوامها 10 ملايين دولار عام 2017؟
الجولاني نفسه، الذي عاد إلى اسمه الحقيقي، لا شخص آخر أقوى منه الآن، من بين كلّ قادة المعارضة
في واقع الأمر، لا تملك سوى ورقة أساسية تقايض بها، وتفاوض أحمد الشرع عليها، وهي رفع التصنيف الإرهابي عنه، بمقابل تحقيق أمور هي أساساً متطلّبات الاستقرار في سوريا:
– الابتعاد عن الجماعات الإرهابية، لا سيما داعش، وليس المقصود فقط الجماعة المعروفة التي تختبئ في البادية، بل كذلك كلّ من يحمل فكراً متطرّفاً، كبقايا السلفية الجهادية بشكل عامّ والذين كانوا في صفوف جبهة النصرة سابقاً.
– حماية الأقلّيات.
– الحفاظ على الدولة ومؤسّساتها.
– التعامل مع مرتكبي الجرائم بوسائل العدالة الانتقالية، بعيداً عن القتل خارج القانون.
– ضبط انفعالات الثأر العشوائي.
– المضيّ بخطى ثابتة نحو إقامة حكم انتقالي مع ما ينطوي عليه من صياغة دستور مؤقّت، والاستفتاء عليه.
صيانة حقوق المرأة والأقلّيات
لا بدّ أنّ الغرب يتطلّع إلى إقامة حكم مدني لا طابع إسلاميّاً له بشكل صارخ، بخلاف ما حدث مع حركة طالبان عقب الخروج الأميركي من أفغانستان. والمقصود باختصار صيانة حقوق المرأة السورية في العلم والعمل والمشاركة في الشأن العامّ وصيانة خصوصية الأقلّيات الدينية.
أمّا في العلاقة مع الدول المجاورة، فمن المؤكّد أنّ من الطلبات غير المعلنة:
– عدم تهديد أمن إسرائيل بأيّ شكل من الأشكال.
– عدم احتضان فصائل فلسطينية في سوريا، أو تقديم الدعم لها أو التعاون معها.
تنفيذ كلّ هذه الشروط وربّما غيرها أيضاً، في مقابل رفع صفة الإرهاب عنه وعن تنظيمه، وباعتبار أنّ الشرع طامح لتولّي منصب قيادي في سوريا الجديدة.
لكنّ أحمد الشرع الذي يقرأ في كتاب مفتوح، استبق كلّ هذه المطالب أو الشروط، فبدأ بتنفيذها بشكل متسارع فور وصوله إلى دمشق:
– من إعلان العفو عن جنود النظام السابق ما عدا المرتكبين للجرائم.
– التشديد على تجريد المدن من المسلّحين التابعين للفصائل.
– نشر رجال الشرطة.
– حظر حمل السلاح تحت طائلة العقوبة.
– التحضير لتأسيس جيش سوري محترف، بما ينطوي عليه من حلّ الفصائل المسلّحة ودمجها في التشكيلات العسكرية الجديدة.
أعطى الشرع الأمان لجميع الضبّاط والجنود الذين ألقوا السلاح، وللموظّفين في الإدارات الحكومية، والمتعاملين مع النظام والمستفيدين منه
معطيات الشّام… مختلفة
أمّا سوريا الجديدة فلن تكون مثل أفغانستان، وليس هذا بقرار منه فقط، بل لأنّ المعطيات الاجتماعية الشامية تختلف عن نظيرتها في أفغانستان. ففي سوريا إجمالاً حركة تديّن لم تخمدها القبضة الغليظة للنظام منذ عهد الأسد الأب إلى آخر لحظة من عمر نظام الأسد الابن قبيل هروبه. وسيكون وجه النظام الجديد بالضرورة انعكاساً لما يعتمل في المجتمع السوري، من تيارات فكرية واجتماعية مختلفة. وفي ما يخصّ العلاقة مع إسرائيل، فالشرع ليس بوارد التورّط في حرب جديدة. وأولويّات الحكم الجديد ستكون تعمير البلاد، وبناء الاقتصاد، وتشييد أركان نظام سياسي بعيداً عن الاستبداد. فحتى لو كان الشرع ورفاقه من هواة النظام الشمولي بصبغة إسلامية، لن يستطيع أن يكون أو يكونوا قادرين على إنشائه، والناس خرجوا للتوّ من نظام مستبدّ وقاهر.
باختصار، الدول المهتمّة بمصير سوريا، تندهش بما تسمعه من الشرع، وتجد صعوبة في تصديق أنّ كلّ هذا كان موجوداً في جعبة الجهادي السابق. فكيف كان أحمد الشرع معتقلاً داخل عمامة الجولاني، ومن أطلق سراحه؟
إقرأ أيضاً: أحمد الشرع ضدّ أبو محمد الجولاني
لكنّ أخطر ما في الأمر أنّ ما يقوله الجولاني قد لا يكون لسان حال المقاتلين من خلفه، وأنّ أحمد الشرع يسير على خيط مشدود، ويغامر حتى بحياته. والخطر ليس خارجياً حصراً، فهو محاط بأعداء لا يمكن إحصاؤهم، ابتداء من إخوانه السابقين في التيار الجهادي.
لمتابعة الكاتب على X: