حزب ما بين النّهرين

مدة القراءة 5 د

هل يتراجع “الحزب” إلى جنوب النهر الكبير* على الحدود الشمالية كما تراجع إلى شمال نهر الليطاني على الحدود الجنوبية؟

 

لم يكن تراجع “الحزب” إلى شمال نهر الليطاني تنفيذاً طوعيّاً للقرار الدولي 1701. اتُّخذ القرار المذكور عام 2006 بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان، التي أدّت إلى ما أدّت إليه من دمار وخراب في الجسور والبنى التحتية والقرى والبلدات الجنوبية وصولاً إلى الضاحية الجنوبية لبيروت.

جاء التراجع إلى شمال الليطاني بناء على الحرب الإسرائيلية، التي شُنّت على “الحزب” ولبنان بفعل حرب إسناد غزة، التي أطلقها الحزب في الثامن من تشرين الأوّل 2023. أدّت الحرب الإسرائيلية إلى استشهاد الأمين العامّ لـ”الحزب” حسن نصرالله ومعه قيادات الصفّ الأوّل، وأبرزهم هاشم صفيّ الدين، وتفجير عشرات القرى جنوب نهر الليطاني كميس الجبل والخيام ومروحين وقرى الحافة الحدودية، إضافة إلى دمار مهول في الضاحية والبقاعين الشمالي والغربي، وانتهاء ببيروت التي عاشت ليلة رعب كبيرة وهي تنتظر موعد وقف إطلاق النار.

جاء التراجع إلى شمال الليطاني بناء على الحرب الإسرائيلية، التي شُنّت على “الحزب” ولبنان بفعل حرب إسناد غزة، التي أطلقها الحزب في الثامن من تشرين الأوّل 2023

لو كانت للقرار 1701 قيمة عند “الحزب” وقيادته لتعامل معه بجدّية وفعّالية منذ عام 2006 ولم ينتظر حتى اليوم، مع هذا الكمّ الضخم من الخسائر والتضحيات، للموافقة على تنفيذه بكامل مندرجاته.

بلغة واضحة صادقة، لقد تراجع “الحزب” إلى شمال الليطاني أمام الآلة الحربية الإسرائيلية والإجرام الصهيوني وليس بفعل قرار دولي رقمه 1701. قُدّم هذا التنازل إرضاء لنتنياهو وفريقه، كي يقبلوا بوقف إطلاق النار. هي الحقيقة التي لا يمكن لأحد حجبها، إن عبر إعلان الانتصار، أو عبر التنظير لقرار وقف إطلاق النار الذي تمّ التوصّل إليه على قاعدة “الحكمة في ما أصابنا من بلاء”. 

قرار جديد وانسحاب جديد؟

بعد أيام على وقف إطلاق النار في الجنوب، على الرغم من تواصل الخروقات الإسرائيلية، يجد “الحزب” نفسه أمام قرار دولي جديد تجاهله لعدّة سنوات، وهو القرار 2254 الخاصّ بالأزمة السورية، والصادر بالإجماع عن مجلس الأمن، أي بموافقة روسيا والصين.

قرار سينفّذه “الحزب” عاجلاً أم آجلاً ليس احتراماً لشرعية دولية، بل بفعل اكتساح المعارضة السورية لمدن كبيرة كحلب وريف إدلب ونبّل والزهراء وريف حماة حتى تاريخ كتابة هذا المقال، وطرد مقاتلي “الحزب” وحلفائهم من أفغان وعراقيين ويمنيين منها.

لو كانت للقرار 1701 قيمة عند “الحزب” وقيادته لتعامل معه بجدّية وفعّالية منذ عام 2006 ولم ينتظر حتى اليوم

يتراجع “الحزب” في الجنوب إلى شمال نهر الليطاني تاركاً جنوبي النهر لقدره الذي وضع الإسرائيلي عنواناً له منذ اليوم الأوّل للعدوان: “حزام خالٍ من الحجر والبشر”.

عند الحدود الشمالية سيتراجع “الحزب” الى جنوب النهر الكبير، ليصبح “حزب ما بين النهرين” تمثّلاً ببلاد ما بين النهرين. وإن كانت تلك البلاد أنشأت أقدم الحضارات وأروعها على أرض العراق وتركيا وسوريا، فإنّ المطلوب من “الحزب” أن يتموضع بين النهرين اللبنانيَّين، أي الليطاني والكبير، وأن ينتج مع شركائه في الوطن “دولة” بكامل المواصفات المعتمدة لقيام الدول. على الحزب أن يثقّف مقاتليه منذ هذه اللحظة بـ”أنّ حدودنا تمتدّ من النهر إلى النهر. من نهر الليطاني جنوباً إلى النهر الكبير شمالاً”. الصدف ملعونة في بعض الأحيان، أفليس الشعار المرفوع في الكنيست الإسرائيلي منذ تأسيس هذا الكيان المغتصب هو:

“حدودك يا إسرائيل من النهر الى النهر”، أي من نهر النيل في مصر إلى نهر الفرات في العراق. على “الحزب” أن يُسقط في غرف التثقيف السياسي التابعة له مصطلحات عديدة ربّما أهمّها ما قاله الراحل السيد حسن نصرالله في أحد خطاباته: “أين يجب أن نكون سنكون”. منذ هذا اليوم لا يمكن لـ”الحزب” أن يكون إلا ما بين النهر الليطاني والنهر الكبير.

يتراجع “الحزب” في الجنوب إلى شمال نهر الليطاني تاركاً جنوبي النهر لقدره الذي وضع الإسرائيلي عنواناً له منذ اليوم الأوّل للعدوان: “حزام خالٍ من الحجر والبشر”

الوصول متأخّراً

كان الأجدى أن يُقدِم الحزب على التراجع إلى جنوب النهر الكبير، عبر إعلان الانسحاب من سوريا قبل اندلاع الأحداث الأخيرة. كان الأجدى أن يخرج من سوريا طوعاً وليس طرداً، كبادرة حسن نيّة تجاه الشعب السوري وخطوة أولى لإصلاح ما يمكن إصلاحه في حفرة العداء التي حفرها “الحزب” في وجدان الشعب السوري منذ ما يزيد على السنوات العشر، وأن يقدّم ذلك أيضاً هديّة لسُنّة لبنان، تأكيداً للنيّة والرغبة بتجاوز ما حصل في سوريا بعد الروح التضامنية التي عبّر عنها سنّة لبنان تجاه النازحين من الجنوب والضاحية في بيروت وطرابلس والبقاعين الغربي والأوسط وعكّار وإقليم الخروب وصيدا.

“الحزب” في اليوم التالي هو حزب ما بين النهرين الليطاني والكبير. لم يعد “الحزب” العابر للأنهار والبحار والحدود. لقد وصلت المغامرة إلى منتهاها، وحان الوقت لمراجعة دقيقة لمنطق التحالفات ومسار العدوان ومآلات الأفكار والرؤى.

إقرأ أيضاً: بعد الحرب.. هل من دروس تعلّمناها؟

أن يلتزم “الحزب” حدود النهرين في السياسة والانتشار والتأثير، لن يكون إضعافاً له ولدوره بقدر ما سيكون نقطة قوّة ستمنحه فائضاً من الشعور الوطني والتأثير الفعّال في المعادلة الوطنية. هو استبدال لفائض القوّة العسكرية بفائض الوطنية. يقوم هذا التحوّل المؤثّر على الأفعال الوطنية لا على الأفعال الإقليمية الخارجية.

*النهر الكبير هو نهر في لبنان وسوريا يصبّ في البحر الأبيض المتوسط عند قرية العريضة اللبنانية. يبلغ طول النهر 77.8 كلم. ينبع من عين الصفا في لبنان ويتدفّق عبر فجوة حمص مشكّلاً الجزء الشمالي من الحدود اللبنانية السورية.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@ziaditani23

مواضيع ذات صلة

“وحدة الخسارات”… ودم رفيق الحريري

ذهب بشار الأسد ضحيّة “وحدة الخسارات”، بعدما آمن بتلك النكتة السمجة التي سمّيت “وحدة الساحات”. ذهب في الواقع ضحيّة ضحالة فكره السياسي ووقوعه منذ اليوم…

أحمد الشرع ضدّ أبو محمد الجولاني

العملية الخاطفة والسريعة جداً، التي أسقطت النظام السوري في 11 يوماً فقط، لا تقلّ إدهاشاً عن سرعة تحوّل أحمد حسين الشرع، المعروف بالفاتح أبو محمد…

سنّة لبنان يتعاطفون ولا ينزلقون

ثمّة كلام مكتوم بدأت تهمس به الألسن في لبنان، وهو يتمحور حول الخوف العميق، وربّما المشروع، من ذهاب الأمور في سوريا نحو إمساك فروع الإسلام…

رسالة تركيّة إلى سوريا الجديدة: هذه هي الأولويات

ما دمنا تبنّينا منذ البداية حراك السوريين في الدفاع عن حقوقهم وكرامتهم التي أراد نظام الأسد سلبها منهم، فمن حقّنا أن نفرح معهم ونقول رأينا…