بعد الحرب.. هل من دروس تعلّمناها؟

مدة القراءة 8 د

“لو كنت تدرين ما ألقاه من شجنِ… لكنتِ أرفق من آسى ومن صفحَ

غداة لوّحت بالآمال باسمة… لان الذي ثار وانقاد الذي جمحَ

فالروض مهما زهت قفرٌ إذا حُرِمَت… من جانح رفَّ أو من صادحٍ صدحَ”

بشارة الخوري

قد يكون من أبشع الأمور المرافقة للحرب هو المشهد المتكرّر لشخصية كريهة ومقزّزة هي الناطق الرسمي باسم العدوّ الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي، بلكنته المقيتة ومنظره المشؤوم ونكاته السمجة وهو يسرد باستخفاف واستكبار تحذيراته ونصائحه الخبيثة.

سخرية القدر هو واقع الثقة التي بناها هذا المقيت مع اللبنانيين، بحيث إنّ عشرات النوادر والنكات الممجوجة عن كونه المرجع الموثوق للمعلومات والتوجيه صارت تتردّد على كلّ لسان. من مؤشّرات هذه الثقة القاتلة أنّ المئات من اللبنانيين صاروا يتقيّدون بتوجيهاته بشكل كامل، ثمّ يوجّهون كاميرات هواتفهم النقّالة، وأحياناً من مسافات قريبة وكلّهم ثقة بأنّهم بأمان، إلى مواقع ستُستهدف ليلتقطوا مشاهد سقوط العمارات بلمح البصر ثمّ تصاعد غيمة النار والشظايا والغبار بدهشة أقرب إلى الإعجاب بقدرات من يدمّر ويقتل بشكل شديد الإتقان، بغضّ النظر عمّا يسمّيه صنّاع الحروب بالأضرار الجانبية.

قد يكون من أبشع الأمور المرافقة للحرب هو المشهد المتكرّر لشخصية كريهة ومقزّزة هي الناطق الرسمي باسم العدوّ الإسرائيلي، أفيخاي أدرعي

جيش الوحوش… يحذّر قبل القتل

يتبجّح وحوش الحرب الصهاينة بكون جيشهم المسمّى “جيش الدفاع” الجيش الوحيد الذي ينبّه مسبقاً سكّان البيوت والأبنية والقرى والبلدات إلى أنّه سيهدم مساكنهم. بالطبع هذا الأمر محصور فقط بالحالة التي لا يكون فيها الهدف اغتيال شخصية ما، فعندئذٍ لا إنذار ولا تنبيه، بل يكون القتل الأعمى لكلّ من اتّفق وجوده بالقرب من ذاك الهدف.

بالمحصّلة، من قال إنّ المنزل لا يتساوى أحياناً مع وجود الإنسان؟

لم يقُل لنا ذاك الكريه الأدرعي ما كان سيحصل لو أنّ سكّان العمارة بقوا في بيوتهم. فهل كان العدوان سيتراجع عن هدفه لأسباب إنسانية أم سيعتبر من بقي في بيته هدفاً مشروعاً؟ تؤكّد تجربة غزةّ المنكوبة والمظلومة أنّ العدوّ كان سيأخذ الخيار الثاني ويستبيح أرواح المدنيين بحجّة أنّه أنذرهم، منتهكاً بذلك كلّ القوانين التي اخترعتها الأمم المتحدة بسبب جرائم الحرب العالمية الثانية، ومنها وأهمّها حملات التطهير العنصري التي اقترفتها النازية، وعلى رأسها المحرقة المعروفة بـ”الهولوكوست” التي ذهب ضحيّتها، إضافة إلى السلاف والغجر وغيرهم، اليهود.

لكنّ الصهيونية لم تتأسّس أبداً بسبب هذه المحرقة، بل نشأت على خلفيّة عنصرية متأصّلة في الفكر المسيحي ضدّ اليهود، مع أنّها تضاءلت بعض الشيء في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر في أوروبا الغربية، بحكم حملة “الهاسكلاه” اليهودية، أي التنوير الذي كان رائده موسى مندلسن في بولندا، والثورة الفرنسية، ثمّ الحملات النابوليونيّة التي أحدثت تغييراً جذرياً في القواعد الاجتماعية والسياسية في أوروبا. لكنّ التعصّب والعنصرية بقيا متأصّلين في أوروبا الشرقية، وبالأخصّ في روسيا القيصرية، حيث استمرّت الحملات الدموية القاتلة قائمة خلال القرن التاسع عشر ضدّ اليهود هناك تحت مسوّغات متعدّدة.

يتبجّح وحوش الحرب الصهاينة بكون جيشهم المسمّى “جيش الدفاع” الجيش الوحيد الذي ينبّه مسبقاً سكّان البيوت والأبنية والقرى والبلدات إلى أنّه سيهدم مساكنهم

إحراق الكتب هو مقدّمة لإحراق البشر

بعد سقوط نابوليون، عادت بعض الممارسات العنصرية إلى أوروبا الغربية كردّة فعل على عصر نابوليون. في الإمبراطورية النمساوية-الهنغارية حصلت حملة سمّاها الشاعر اليهودي الكبير هينريش هاينه “وباء المعموديّة”، عندما أُجبر اليهود على العمادة كمسيحيين في حال أرادوا دخول سلك الدولة أو التعليم. وقد حذّر الشاعر من أنّ المارد الجرماني البدائيّ الداخل في سبات، وسيخرج عاجلاً أم آجلاً ليتسبّب بأعظم الكوارث في التاريخ. هذا ما حدث بالفعل في الحربين العالميّتين بعد حوالي قرن من وفاة هاينه. يُشار إلى أنّ هاينه اليهودي كان قد أعلن حنينه لزمان الوصل في الأندلس في ملحمة شعرية هي “تراجيديا المنصور”. فقد انتقد فيها التعصّب المسيحي الذي أدّى إلى محاكم التفتيش الشهيرة التي سعت إلى تعرية شبه الجزيرة الإيبيرية من تاريخها الطويل مع الإسلام بحرق الكتب العربية والعبرية. قال في الملحمة إنّ “إحراق الكتب هو مقدّمة لإحراق البشر”، وكأنّه كان يصف ما سيكون عليه الوضع في عهد هتلر.

كان مؤتمر “بازل” الصهيوني اليهودي سنة 1897 بداية السعي غير الديني إلى إنشاء كيان يهودي في فلسطين، بعد استبعاد خيارات عديدة أخرى لموقع هذا الكيان. لكن، بعد تطابق المسعى الصهيوني اليهودي مع الأسطورة الصهيونية الإنجيلية والمصالح الاستعمارية الغربية، صدر وعد بلفور الشهير أواسط الحرب العالمية الأولى، ودخلت الولايات المتحدة الحرب، فخسرت ألمانيا بشكل مذلّ تلك الحرب، ثمّ صار اليهود سبب هذه الهزيمة بالنسبة إلى الألمان، فتأجّج الحقد القومي العنصري بين الحربين وأنتج صعود هتلر وجماعته سنة 1933 إلى السلطة، والباقي معروف. بعدها، استثمرت الصهيونية في النتائج المرعبة للمحرقة، واستثمر الغرب المنتصر فيها للقضاء بشكل كامل على النازية من خلال الإعدامات التي وصلت إلى خمسة آلاف شخص بعد محاكم نورمبرغ، وإقصاء عشرات الآلاف من المهنيين والأكاديميين عن الشأن العامّ. بالتالي فقد وقعت ألمانيا تحت عقدة الذنب، كما معظم أوروبا الغربية التي صارت تدعم الصهيونية من دون حساب، فيما لم تصبح الولايات المتحدة الدولة الراعية للصهيونية إلا لأسباب استعمارية بعد حرب 1967.

بعد التجربة الحالية، قد يكون من الواجب تحرير فلسطين من أوهام الشعارات الجامدة العقائدية والأسطورية، وتحويلها بالكامل ومن دون التباس إلى قضية حقوق إنسانية

يهود ضدّ العنصريّة الصهيونيّة

لم يمنع كلّ ذلك الكثيرين من اليهود من رفض المشروع الصهيوني العنصري والتحوّل إلى ألدّ أعدائه. نورمن فنكلشتاين اليهودي وحفيد ضحايا المحرقة كان من روّاد الأكاديميين الأميركيين في استهجان استخدام ذكرى المحرقة وتشويه مغازيها الإنسانية للتنكيل بشعب فلسطين. وقد أدّى ذلك إلى خسارته موقعه الأكاديمي.

  • الصحافي جدعون ليفي في “هآرتس” لم يتوقّف عن اعتبار الحكم في إسرائيل عنصرياً متوحّشاً سمّم الحياة السياسية ودمّر الأخلاق الإنسانية لليهود فتحوّلوا إلى نوع من الإنكار الجماعي حتى لإنسانية الآخرين. واعتبر أنّ العنصرية اليهودية هي صنو النازية، وأنّ هذا النهج، كما دعم الغرب له، سيكون السبب في دمار إسرائيل. دفع ليفي ثمن موقفه الصادق والإنساني، إذ صار يتلقّى التهديدات من بني جلدته ويوصف بأنّه “خائن” وخسر زوجته وأولاده الذين ابتعدوا عنه.
  • ميكو بيليد، ابن الجنرال يوسي بيليد، تخلّى عن جنسيّته في إسرائيل وصار فلسطينياً وأسّس لأنشطة سياسية فلسطينية في الخارج.
  • إيلان بابي وآفي شليم مؤرّخان يهوديان فنّدا وأسقطا الحجج الصهيونية التاريخية لاحتلال فلسطين مؤكّدَين أنّ مسار الدولة العبرية كان كلّه مبنيّاً على انتهاك حقوق الإنسان والشرائع الدولية والإنسانية.
  • شلومو ساند، المؤرّخ، رفض بالكامل أيّ حقّ تاريخي ليهود الأشكيناز في فلسطين. وقال إنّهم أصلاً من شعب الخزار الذين اعتنقوا اليهودية في القرن الثامن في نواحي بحر قزوين، ثم هاجروا إلى أوروبا.

ليس التعويل على النخب اليهودية العالمية من الأوهام، بل يجب أن يكون جزءاً مهمّاً من النضال في وجه توحّش الصهيونية بفصلها عن اليهودية

لائحة طويلة من اليهود الذين خرجوا من غوغاء الجماعة والإجماع ليلتصقوا بالحقّ والتضامن البشري الإنساني. يضاف إليهم اليوم مئات آلاف الناشطين والطلّاب والأكاديميين الذين انتفضوا على العنصرية الصهيونية مؤكّدين أنّ إسرائيل لطّخت ذكرى ضحايا المحرقة بمعانيها الإنسانية بفعلها ما فعله النازيون، مشبّهين وضع الوجود الفلسطيني تحت الاحتلال بأسرى معسكرات الاعتقال، والمجازر الجماعية بالمحرقة.

بعد التجربة الحالية، قد يكون من الواجب تحرير فلسطين من أوهام الشعارات الجامدة العقائدية والأسطورية، وتحويلها بالكامل ومن دون التباس إلى قضية حقوق إنسانية تتخطّى غرائز رفع رايات النصر على الركام والضحايا التي لم يتمّ انتشالها، وتتعالى فوق الدعوات إلى المزيد من التضحية والموت.

ليس التعويل على النخب اليهودية العالمية من الأوهام، بل يجب أن يكون جزءاً مهمّاً من النضال في وجه توحّش الصهيونية بفصلها عن اليهودية كما فصل قضيّة حقوق الإنسان عن الرغبة البدائية برفع رايات النصر ثمّ الذهاب إلى خيارات مبتكرة لردع توحّش الصهيونية العنصرية ثمّ هزيمتها، بعد أن نحجم عن الاستدراج الغرائزي إلى ساحة الوغى.

إقرأ أيضاً: حلب إذ تختصر الشرق الأوسط

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

إيران تطلب السّلام… هل نطق ظريف بلسان الحرس؟

للتدخّل الروسي في سوريا قصّة رواها فيما بعد الأمين العامّ الراحل للحزب، ومختصرها أنّ قائد فيلق القدس في ذلك الحين، قاسم سليماني، سافر إلى موسكو…

المعارك في سوريا تمهّد للتّفاوض على إضعاف إيران؟

يرتسم الشرق الأوسط الجديد انطلاقاً من التطوّرات العسكرية الدراماتيكية في سوريا. يطرح تحريك الميدان السوري المفاجئ والمعقّد الأبعاد علامات استفهام حول صيرورة المواجهات الدائرة ومصير…

هل يستمع الأسد إلى النّصائح العربيّة؟

هجوم 27 تشرين الثاني 2024 من إدلب على حلب، الذي أثبت ضعف نظام الأسد وتهالُكه، يعني أن لا حلّ في الأمد المنظور للحرب السورية الداخلية…

إسرائيل وتركيا وروسيا تستعدّ لـ”عاصفة ترامب”؟

تتسارع الأحداث مع اقتراب 20 كانون الثاني، يوم تنصيب دونالد ترامب الرئيس الـ47 للولايات المتحدة. وبدأت بعض الدول تتموضع في محاولة لتثبيت وقائع على الأرض،…