سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية تتوالى فصولها في السودان: 150 ألف قتيل، و10 ملايين مشرّد، و16 مليون مهدّدون بالمجاعة.
العاصمة السودانية الخرطوم تدمّرت، وقُتل من السودانيين حسب الإحصاءات الرسمية الدولية 150 ألف انسان. ولا تزال الجثث مكوّمة في الشوارع تتحلّل من دون أن تجد من يدفنها. ثمّ إنّ أكثر من عشرة ملايين سوداني، أي حوالي خُمس السكّان، يهيمون على وجوههم مهجّرين داخل السودان وخارجه، ويخيّم عليهم شبح المجاعة، وهو ما يذكّر بالمجاعة التاريخية التي أصابت إثيوبيا في الثمانينيات من القرن الماضي.
لا تقتصر المأساة السودانية التي يحجبها غبار التدمير الإسرائيلي اليومي للأحياء السكنية في لبنان وغزة على التدمير والتهجير. فقد تعرّضت الحقول الزراعية لسلسلة من الحرائق المتعمّدة التي باتت تهدّد حسب دراسات الأمم المتحدة ما بين ستة وعشرة ملايين سوداني بالمجاعة.
العاصمة السودانية الخرطوم تدمّرت، وقُتل من السودانيين حسب الإحصاءات الرسمية الدولية 150 ألف انسان
لم يسبق أن واجهت دولة في العالم، حتى في أسوأ مراحل الصراعات في إفريقيا، بما في ذلك الكونغو، ما تواجهه السودان اليوم من مأساة إنسانية تجمع بين التهجير والقتل الجماعي والمجاعة. وقد تحوّل السودان إلى مجموعة من البؤر يتجمّع فيها المهجّرون والمقاتلون المرتزقة وتُرتكب فيها جرائم الاغتصاب على نطاق واسع.
قتل واغتصاب غير مسبوقين
عرفت سوريا وليبيا مآسي وحروباً داخلية من هذا النوع، لكن ما يحدث في السودان يتجاوز ما حدث في أيّ دولة أخرى عربية أو إفريقية، ليس فقط من حيث التدمير والتهجير، لكن أيضاً من حيث القتل والاغتصاب. من هنا التناقض الكبير بين حجم المأساة وحجم الاهتمام العربي والدولي بهذه المأساة.
تؤكّد منظّمات الأمم المتحدة المختصّة أنّ 60 في المئة من اللاجئين المتجمّعين في شمال فرنسا والذين ينتظرون الفرصة للتسلّل إلى بريطانيا هم من السودانيين.. وفي ضوء أوضاعهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية، فإنّهم يشكّلون “قنابل موقوتة” أمنيّاً واجتماعياً.
غير أنّ أبعاد المأساة في السودان لا تقتصر على هذا البُعد الإنساني فقط، فهناك أبعاد سياسية وأمنيّة على مستوى إفريقيا ودول البحر الأحمر وكلّ إفريقيا.
الاتّحاد الروسي وإيران يتطلّعان إلى إقامة قواعد عسكرية لهما في السودان تطلّ على البحر الأحمر. ومصر التي تعاني من تعثّر الملاحة الدولية عبر باب المندب وما تركه ذلك من آثار مادّية سلبية على دخل قناة السويس، تخشى أن تصبح الملاحة عبر القناة رهناً بالصراعات المتوالدة في البحر الأحمر على خلفيّة انهيار السودان.
لم يسبق أن واجهت دولة في العالم، حتى في أسوأ مراحل الصراعات في إفريقيا، بما في ذلك الكونغو، ما تواجهه السودان اليوم من مأساة إنسانية
الخطر على مصر والسّويس
قناة السويس هي شريان الوصل بين آسيا وأوروبا، وتشكّل أحد أهمّ مصادر الدخل القومي لمصر. وهي معرّضة، بحكم الطموحات الدولية في البحر الأحمر من بوّابة السودان، لمخاطر لم تكن محسوبة نتيجة الأزمة – المأساة. وتواجه هذه الأزمة نوافذ مغلقة وأبواباً موصدة تحجب أيّ ضوء يعكس أمل التسوية.
تريد أوروبا إقفال بوّابة الهجرة. وتريد آسيا فتح طريق البحر الأحمر. إلا أنّ الإرادتين تصطدمان بصراع داخلي بين الجيش وقوات الدعم السريع. وقد ثبت أنّهما مجرّد واجهة محلّية لصراع إقليمي – دولي.
لقد بلغ الانقسام السوداني حدّاً يستحيل أو يتعذّر إعادة توحيده. سبق أن انشقّ الجنوب وشكّل دولة مستقلّة ذات أكثرية غير عربية وغير إسلامية، ويتعرّض اليوم لأكثر من حركة انشقاق على أسس عنصرية وقبلية.
تتصدّر دارفور لائحة المناطق التي تتطلّع للانفصال على أسس عنصرية بين العرب والأفارقة. وقامت حركة استقلالية مسلّحة أيضاً في كلّ من منطقة النيل الأزرق المجاورة لإثيوبيا وفي منطقة جنوب “كودوفان” المتاخمة لدولة جنوب السودان، وكذلك في منطقة “سينار” التي توصف بأنّها سلّة خبز السودان.
تتصدّر دارفور لائحة المناطق التي تتطلّع للانفصال على أسس عنصرية بين العرب والأفارقة
نهب 200 ألف طنّ مساعدات
تقول الأمم المتحدة إنّها قدّمت للسودان 200 ألف طنّ من المساعدات الغذائية بين عامي 2023 و2024، إلّا أنّ معظم تلك المساعدات تعرّضت للنهب والتلف وذهبت هباء بين أقدام القوى المتقاتلة. وتتخوّف الأمم المتحدة من تضخّم حجم المجاعة في العام المقبل إذا ما استمرّت هذه الصراعات المسلّحة. ولا تبدو في الأفق بارقة أمل لحلّ قريب.
مرّ أكثر من 500 يوم على التقاتل في السودان دون أن يتمكّن أيّ من الطرفين المتقاتلين من حسم المعركة. الاستنزاف مستمرّ، وكذلك تفسّخ السودان على طول الثمانمئة كيلومتر التي يطلّ من خلالها على البحر الأحمر.
استقلّ السودان عن بريطانيا في عام 1956. ومنذ ذلك الوقت لم يذُق طعم الاستقرار. تعرّض لسلسلة من الانقلابات العسكرية وحركات التمرّد والعصيان المسلّح. ولم ينتبه العالم العربي لخطورة ذلك إلا بعد انفصال الجنوب في عام 2011. لقد جاء الإدراك متأخّراً، إذ شجّع مناطق عديدة على تقليده وتتبّع خطاه.
إقرأ أيضاً: السّودان: إيران وروسيا تريدان قواعد عسكريّة
انقسام السودان أو تقسيمه لن يقف عند حدّ. إنّه مثل مرض الجرب.. سريع العدوى.. وسريع الانتشار. وتفتقر المنطقة العربية إلى المضادّات الوطنية أو الدينية التي تتصدّى لجرثومة التقسيم والتفتيت.
مات المستشرق الأميركي اليهودي برنارد لويس قبل سنوات قليلة.. إلّا أنّ مشروعه لتقسيم العالم الإسلامي من باكستان حتى المغرب على أسس عرقية وطائفية ومذهبية لم يمت.
فاحذروا “سودنة” العالم العربي…