هذا ما سيحدث عاجلاً أم آجلاً: قد تتبلور حلول لجبهة الردّ والردّ على الردّ، وإن لم تكن نهائية وحاسمة، لكنّها وفق كلّ المؤشّرات ستظلّ محصورةً تحت الأسقف الأميركية والأطلسية. جبهة الردّ والردّ على الردّ إن هدأت أو تصاعدت، فهنالك إجماع على أن لا تتطوّر وقائعها المحسوبة بدقّة إلى حربٍ إقليمية دولية. ومثلما هضم العالم سجالات ما قبل هذه الحرب، سيهضم ما بعدها، إلى أن يظهر حلٌّ سحريٌ يضع حدّاً نهائياً لها.
الجبهة الشّماليّة
يقع العبء الأكبر من خسائر الجبهة الشمالية على لبنان، وذلك من خلال الملاحقة الإسرائيلية للحزب أينما وجد. وقد لوحظ أنّ الأميركيين وغيرهم بذلوا جهداً فيها أكبر بكثير ممّا بُذل بشأن الحرب على غزة، وهو ما يجعل الجبهة الشمالية مرشّحة لحلّ سياسي يظلّ على صعوبته أقرب منالاً من الحلّ على الجبهة التوأم.
غزّة
كنت أشرت في مقالٍ سابقٍ إلى أنّ غزّة كانت أوّل الحرب وستكون آخر الحلّ، وهذا ما سعت إليه إسرائيل، وهو أحد ثوابت سياستها التي ترتكز على منع قيام دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلّت في عام 1967، بما فيها القدس الشرقية، وإسقاط موضوع اللاجئين من أيّ تسوية محتملة. وفي الوقت الذي كانت فيه حروب بنيامين نتنياهو على الجبهات السبع مشتعلة، طوّر الإسرائيليون سياستهم تجاه القضية الفلسطينية بتشريعات ملزمة لكلّ الحكومات تمنع قيام دولة فلسطينية وتلغي وكالة الأونروا وتنهي أنشطتها في أيّ مكان تستطيع إسرائيل الوصول إليه.
يكمن الخطأ في “اليوم التالي” لحرب غزة، الذي يتحدّث العالم عنه عبر صيغ وسيناريوهات متخيّلة، في أنّه ما يزال محصوراً بـ: كيف تدار غزة؟ وكيف يمكن أن تجري إعادة إعمارها؟ ومن هي الجهة أو الجهات التي تتولّاها؟
الخطأ في ذلك هو في عدم تحديد رابطٍ بين متطلّبات “اليوم التالي” وبين الحلّ السياسي الشامل للقضية الفلسطينية.
في الرياض انطلق جهدٌ جديدٌ أساسه المبادرة العربية للسلام، التي وُضعت على الرفّ بفعل عدم جدّية الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في التعاطي معها
صحيحٌ أنّ هنالك حديثاً عن حلّ الدولتين، لكنّه ما يزال في إطار العنوان العامّ الذي جرى تداوله قبل الحرب الحالية بسنوات، من دون أن يُبذل جهدٌ جدّيٌّ لوضعه موضع التطبيق.
في الرياض انطلق جهدٌ جديدٌ أساسه المبادرة العربية للسلام، التي وُضعت على الرفّ بفعل عدم جدّية الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل في التعاطي معها. وهذا الجهد يجسّد إجابة عن سؤال اليوم التالي، لكن هذه المرّة ليس بشأن جزئيّة غزّة على أهمّيتها وإنّما بشأن ما هو أبعد من ذلك، أي قيام الدولة الفلسطينية كحلّ جذري للصراع الدائم المنتج للحروب في الشرق الأوسط. وهذا الجهد النوعيّ الذي تتشارك فيه الغالبية العظمى من دول العالم بانسجام كامل مع مبادئ وقرارات الشرعية الدولية، يحتاج إلى رافعة فلسطينية متينة يستند إليها في المعركة السياسية المقبلة وتنطلق من نتائج الحرب على غزة وامتداداتها وحاجة العالم إلى احتوائها وضمان عدم تكرارها.
عادت الكرة إلى مكانها الطبيعي في اللعبة، أي إلى الملعب الفلسطيني، وهذا يطرح سؤالاً يجب أن يكون الفلسطينيون أمناء في الإجابة عليه: هل يصلُح وضعهم الحالي لأن يكون رافعةً قويّةً فعّالةً للجهد الإقليمي والدولي الذي يُبذل لتحقيق حلّ الدولتين بإقامة الدولة الفلسطينية؟
تراجع الوضع الفلسطيني كثيراً في مجال التأثير على المسارات، والتراجع هذا يملي حاجة ملحّة إلى علاج فعّال يساعد به الفلسطينيون أنفسهم ويساعدون كلّ من يعمل من أجلهم. وحين أقول إنّ الكرة في الملعب الفلسطيني، فما أعنيه بالضبط هو أنّها في ملعب الرئيس محمود عباس الذي يجسّد الشرعية الرسمية المعترف بها فلسطينياً وعربياً ودولياً، وإذا كان لا يتحمّل وحده مسؤولية الوضع الفلسطيني بصورته السلبية الراهنة، فهو أوّل من يتحمّل مسؤولية المعالجة وإخراج الحالة الفلسطينية من مأزقها.
غزّة كانت أوّل الحرب وستكون آخر الحلّ، وهذا ما سعت إليه إسرائيل، وهو أحد ثوابت سياستها
هنالك اقتراح ينبغي أن يُدرس بإيجابية، وهو أن يدعو إلى عقد مجلس وطني تشارك فيه جميع الأطياف والقوى والفصائل الفلسطينية، وذلك لإعادة تفعيل النظام السياسي الفلسطيني، نظام منظّمة التحرير، الذي حمى الحالة الفلسطينية قبل ولادة السلطة الوطنية، ولا يملك غيره إمكانات حقيقية لجمع شمل الفلسطينيين وتوحيد كلمتهم وقيادة مسيرتهم.
إقرأ أيضاً: الجبهة الأساس.. فلسطين ما قبلها وبعدها
هل يتمّ ذلك فيما تقف القضية الفلسطينية على مفترق طرق: إمّا أن يفضي إلى دولة أو إلى ما هو عكس ذلك؟