لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرباط، حيث حلّ في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من تشرين الأوّل 2024، مجرّد “زيارة دولة” عاديّة التقى خلالها الملك محمّد السادس ووقّع معه سلسلة من الاتّفاقات ذات الطابع الاستراتيجي بين البلدين.
شكّلت الزيارة، قبل أيّ شيء آخر، تتويجاً لمصالحة لفرنسا مع نفسها وتكريساً لـ”الشراكة الاستثنائية الوطيدة” بين البلدين بعد سنوات من الفتور وجدت فرنسا في أثرها أن لا غنى لديها من استعادة العلاقة مع المغرب، بل توطيد هذه العلاقة والعمل على تطويرها في كلّ المجالات. صار المغرب، بفضل رؤية الملك محمّد السادس، واقعاً يستحيل تجاوزه عندما يتعلّق الأمر بشمال إفريقيا ومنطقة الساحل والقارّة كلّها.
لدى المغرب قضيّة في غاية الأهمّية تتقدّم على كلّ ما عداها. إنّها قضية الصحراء المرتبطة بوحدته الترابيّة. إنّها “النظّارة” التي يتطلّع من خلالها إلى كلّ القضايا الأخرى في هذا العالم، على حدّ تعبير محمّد السادس. من هذا المنطلق، لم يترك الرئيس الفرنسي أيّ مجال لأيّ أخذ وردّ في ما يتعلّق بموقف بلده من مغربيّة الصحراء بقوله أمام مجلس النواب في اليوم الثاني والأخير من الزيارة: “أردت باسم فرنسا أن أوضح مجدّداً رؤيتي في ما يتعلّق بأقاليم الصحراء من خلال رسالة وجّهتها إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس في تموز الماضي. بالنسبة إلى فرنسا، إنّ حاضر هذه الأراضي ومستقبلها يندرجان في إطار السيادة المغربية، والحكم الذاتي تحت السيادة المغربية هو الإطار لحلّ المسألة، وسندافع عن موقفنا إلى جانب المغرب في المحافل الدولية”.
لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرباط، حيث حلّ في الثامن والعشرين والتاسع والعشرين من تشرين الأوّل 2024
وضع ماكرون بهذا الكلام الواضح أساساً لتحالف استراتيجي مع المغرب بشكل لا يترك فيه مجالاً للتأويلات أو لتغيير في الأمزجة، كما يجعله عنواناً ملزماً لأيّ رئيس أو أيّ مسؤول فرنسي مستقبلاً. لم يترك وزير الخارجية الفرنسي جان- نويل بارو، الذي جاء إلى الرباط أيضاً، أيّ مجال لأيّ تردّد فرنسي في دعم موقف المغرب من وحدته الترابية. قال بارو: “ننوي جعل هذه الشراكة المتجدّدة بين فرنسا والمغرب تشمل كلّ الأراضي (المغربيّة)، بما في ذلك الصحراء”.
بالفعل ترافقت الزيارة التي قام بها ماكرون للرباط مع تغيير الخارجية الفرنسيّة الخريطة المعتمدة للمملكة المغربيّة. صارت هذه الخريطة تشمل الأقاليم الصحراوية التي استعادها المغرب سلماً عبر “المسيرة الخضراء” في تشرين الثاني 1975 فور انسحاب المستعمر الإسباني.
حرص الرئيس الفرنسي على تأكيد أنّ هذا الوضوح من مغربيّة الصحراء سيمثّل أساساً لعلاقات فرنسا الخارجية في شمال إفريقيا، قائلاً: “هذا الموقف ليس تعبيراً عن عداء لأيّ طرف، إنّه موقف يسمح بفتح صفحة جديدة من أجل التعاون الإقليمي في المتوسّط مع البلدان المجاورة للمغرب ومع الاتحاد الأوروبي”. كانت تلك إشارة واضحة إلى النظام في الجزائر الذي يشنّ حرب استنزاف بالواسطة على المغرب منذ استعاد أقاليمه الصحراوية.
إعادة اكتشاف المغرب
جاءت زيارة ماكرون للرباط مناسبة كي تعيد فرنسا اكتشاف المغرب، وذلك منذ اعترفت باستقلاله في تشرين الثاني من عام 1955 في لقاء بين ممثّل للملك محمد الخامس ووزير الخارجية الفرنسي فرنسوا بينو. استقلّ المغرب بعد حماية فرنسية استمرّت 44 عاماً، وبعدما وجدت فرنسا أن لا مجال للالتفاف على السلطان (وقتذاك) محمد الخامس وتجاوزه. نفت محمّد الخامس إلى مدغشقر مع أفراد عائلته، لكنّ الشعب المغربي ازداد تعلّقاً بالملك المنفيّ. هذا ما جعل ماكرون يتطرّق في خطابه أمام مجلس النواب في الرباط إلى “الاستمراريّة المغربية في ظلّ إحدى أقدم العائلات المالكة في العالم”. زاد محمّد السادس على “الاستمراريّة”، كما قال الرئيس الفرنسي، “الحداثة في مجالَي الصناعة والتكنولوجيا”.
حرص الرئيس الفرنسي على تأكيد أنّ هذا الوضوح من مغربيّة الصحراء سيمثّل أساساً لعلاقات فرنسا الخارجية في شمال إفريقيا
لم يترك ماكرون في خطابه الطويل أيّ مجال للتعاون بين البلدين إلّا وأشار اليه، بما في ذلك كرة القدم ودورة كأس العالم الأخيرة في عام 2022 التي فاز فيها الفريق المغربي على الفريق الفرنسي. وأشار إلى لاعبين من المغرب يلعبون مع الفرق الفرنسية الكبيرة، بمن في ذلك باريس سان جيرمان… وإلى تنظيم المغرب مع إسبانيا والبرتغال دورة كأس العالم في 2030.
شملت إعادة اكتشاف فرنسا للمغرب مجالات التعاون بين البلدين في مجال القطارات السريعة وتحلية المياه والتعليم والطاقة النظيفة والترويج للّغة الفرنسيّة والتكنولوجيا الحديثة والتنسيق الأمنيّ ومعالجة مشكلة الهجرة غير المشروعة. لم يغِب عن باله دور فرنسيين ومغاربة في التقريب بين البلدين مثل جاك بيرك أو كتّاب كبار حازوا جوائز أدبية فرنسية مثل الطاهر بن جلّون وعبد اللطيف اللعبي وليلى سليماني. ولم ينسَ أيضاً رسّامين كباراً ارتبط اسمهم بالمغرب مثل ماتيس ودولاكروا وماجوريل. لم يغِب عن بال ماكرون أيضاً تضحيات مغاربة قاتلوا إلى جانب قوات “فرنسا الحرّة” في مقاومة الاحتلال النازي… ولا دور المغرب في نشر الإسلام المعتدل والمتسامح.
مزيد من التّطوّر
تسير العلاقات المغربيّة – الفرنسيّة في اتّجاه مزيد من التطوّر في كلّ المجالات، خصوصاً بعد قبول محمّد السادس الدعوة إلى زيارة فرنسا السنة المقبلة. لم تعد فرنسا متردّدة في المشاركة في الاستثمار في مشاريع داخل الصحراء المغربيّة. هذا ما أكّده الرئيس الفرنسي نفسه ووزير الخارجية. في النهاية لا شيء ينجح مثل النجاح. تحتاج فرنسا إلى أن تكون في العيون، وكذلك في الداخلة على شاطئ الأطلسي. لم يعد من مجال لأيّ أخذ وردّ عندما يتعلّق الأمر بنجاح المغرب، بقيادة محمّد السادس، في تطوير الأقاليم الصحراوية وتحويل الداخلة إلى الواجهة الأطلسية لإفريقيا.
تسير العلاقات المغربيّة – الفرنسيّة في اتّجاه مزيد من التطوّر في كلّ المجالات، خصوصاً بعد قبول محمّد السادس الدعوة إلى زيارة فرنسا السنة المقبلة
لا شيء يعبّر عن نجاح عودة فرنسا إلى المغرب، بكلّ هذا الزخم، أكثر من المقطع الأخير لخطاب ماكرون الذي ورد فيه أنّ “الرؤية المستنيرة لجلالة الملك محمّد السادس والإنجازات التي تحقّقت في السنوات الـ25 الأولى من عهده تشكّل دعوة إلى التطلّع إلى المستقبل. كما فهمتم، جئت أعمل إلى جانبكم ومعكم”.
إنّه مقطع يقول كلّ شيء. يقول خصوصاً إنّ للمغرب دوراً محوريّاً ووجوداً إقليميّاً ودولياً يستحيل تجاوزه.
لمتابعة الكاتب على X: