“ممانعة” لبنان الرّسميّ حيال خطّة إيران للمواجهة

مدة القراءة 9 د

تسعى طهران إلى أهداف متعدّدة من وراء تحرّكاتها الدبلوماسية والسياسية في الإقليم وعلى الصعيد الدولي. فهي تعمل تحت شعار “دعم المقاومة” لضمان صمود الحزب وتعويض الخسائر التي تكبّدها في لبنان جرّاء ضربات إسرائيل. وتعمل أيضاً على تجييش دول وقوى إقليمية للضغط على الولايات المتحدة لوقف الهجوم عليها وعلى أذرعها. كما تتبع نهجاً تفاوضياً عبر قنوات التواصل مع الولايات المتحدة من خلال دول المنطقة لعلّها تؤخّر آلتها العسكرية التدميرية. بهذه التوجّهات الثلاثة تتحسّب لاحتمالات التصعيد والتفاوض، في ظلّ تصميم بنيامين نتنياهو على اغتنام فرصة الانتخابات الأميركية لمواصلة حملته العسكرية. لكنّ اتّباع النهج المتعدّد الاتّجاهات وسط تسارع الأحداث ميدانياً لا يخلو من العقبات والتناقضات، وهو ما يضطرّ طهران إلى التصحيح والتعديل.

 

التوجّهات الثلاثة التي تعتمدها إيران بمواجهة الاندفاع الإسرائيلي لتجريدها من أسباب القوّة الإقليمية تخدم بعضها بعضاً.

وقائع من التّحرّك الإيرانيّ واستعادة الرّدع

شهدت وقائع التحرّكات الإيرانية منذ اغتيال الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله في 27 أيلول مزيجاً من الارتباك والتشدّد والليونة. كان من الطبيعي أن تنعكس النجاحات الإسرائيلية في توجيه الضربات المتتالية للذراع الرئيسي لطهران في المنطقة، الحزب، صدمة لطهران.

من الوقائع يمكن ذكر الآتي:

ميدانياً: أشرفت طهران على ترميم الهيكلية العسكرية والتنظيمية بعد الاغتيالات التي طالت قيادته السياسية والعسكرية فاستأنف القصف الصاروخي لعمق إسرائيل. وليس تفصيلاً بلوغ مسيّرة الحزب قاعدة عسكرية في بنيامينا القريبة من حيفا أول من أمس متسبّبةً بإصابة أكثر من 70 جندياً ومقتل أربعة. كما نجح الحزب في الأيام الماضية في صدّ محاولات التوغّل من قبل جيشها إلى الداخل اللبناني، على الرغم من إعلان تدمير أنفاق وقتل مقاتلين للحزب. سعت طهران إلى استعادة أسباب القوّة التي تمكّنها من استخدام قوّة الحزب الردعيّة بمواجهة إسرائيل بصرف النظر عن التدمير الإسرائيلي في الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية للعاصمة. أمَلَت أن تأخذ واشنطن ذلك في الحسبان في التفاوض حول حدود ردّ إسرائيل على الصواريخ التي أطلقها “حرس الثورة” على تل أبيب في 1 تشرين الأول.

تسعى طهران إلى أهداف متعدّدة من وراء تحرّكاتها الدبلوماسية والسياسية في الإقليم وعلى الصعيد الدولي

كان طبيعياً أن توظّف استعادة فعّالية منظومة الحزب العسكرية من أجل الحؤول دون تصعيد الضغوط السياسية عليه لتقديم تنازلات ميدانية، فإسرائيل تطرح انسحاب قوات الحزب إلى جنوب الليطاني ونزع هذا السلاح.

تصليب الحزب لاستعادة الرّدع

1- خلال زيارة وزير الخارجية عباس عراقجي في 4 تشرين الأول لبيروت، حاول دفع القيادة السياسية اللبنانية إلى مواكبة جهود طهران لتقوية الوضع العسكري للحزب. طالب المسؤولين اللبنانيين بدعم المقاومة، ورافقته على الطائرة التي أقلّته 10 أطنان من المساعدات للنازحين. تجاهل بموقفه نداءً أصدره قبل يوم من زيارته رئيسا البرلمان نبيه بري والحكومة نجيب ميقاتي ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي السابق وليد جنبلاط، وتضمّن خارطة طريق لوقف الحرب. لم يأتِ النداء على ذكر المقاومة، بل ركّز على وقف النار وانتخاب رئيس للجمهورية وتطبيق القرار الدولي 1701.

اعتبر عراقجي في سياق تشديده خلال لقاءيه مع برّي وميقاتي على دعم المقاومة أنّ “لبنان لن يبقى من دون المقاومة”. وكان ذلك محطّ استهجان. لكنّه لقي “ممانعة” لبنانية رسمية لتشريع الانخراط الرسمي في محور المقاومة بمواجهة الضغط العسكري، فالجانب اللبناني شدّد على السعي لوقف النار في مجلس الأمن.

انعكس الموقف الإيراني في الكلمة التي وجّهها نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم في 5 تشرين الأول، وأكّد فيها أنّ إمكانات الحزب العسكرية بخير متوعّداً إسرائيل بترسانة الصواريخ التي بحوزة الحزب. ثمّ انعكس لاحقاً في ما أعلنه مسؤول العلاقات الإعلامية محمد عفيف. لكنّ قاسم فوّض بري التفاوض باسم الحزب، واكتفى بالمطالبة بوقف النار من دون ربطه بغزة، محيلاً أيّ أمر آخر إلى ما بعده. هذا في وقت كان التفويض الذي سبق زيارة عراقجي شمل السعي لانتخاب رئيس للجمهورية قبل وقف النار.

شهدت وقائع التحرّكات الإيرانية منذ اغتيال الأمين العامّ للحزب حسن نصر الله في 27 أيلول مزيجاً من الارتباك والتشدّد والليونة

2- زيارة رئيس مجلس الشورى الإيراني محمد باقر قاليباف السبت لبيروت حملت استدراكاً، إذ شدّد على الوقوف إلى جانب قرارات الحكومة والمقاومة، وسبق ذلك تعديل في لهجة عراقجي نفسه خلال زيارته للمملكة العربية السعودية حيث اجتمع إلى وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان. فبعدما قال في بيروت بوقف النار في غزة ولبنان، أضاف في حديث لـ”الجزيرة” أنّ وجهة النظر التي تقول “بأولوية وقف النار في لبنان قد تكون صحيحة أيضاً”، وهو الأمر الذي كان توافق عليه الأقطاب اللبنانيون الثلاثة.

في الضغط لوقف النار: اعتبر عراقجي أن لا أمل من السعي لدى مجلس الأمن من أجل التوصّل إلى وقف إطلاق النار. وجاء موقفه مناقضاً لمضمون النداء الثلاثي الذي أطلقه بري وميقاتي و جنبلاط وفصَل بين وقف النار في لبنان ووقفه في غزة، ونادى بالفصل بين انتخاب رئيس للجمهورية وبين وقف النار، والالتزام بتطبيق القرار 1701. فيما انطوى الموقف الإيراني على تشدّد، وممّا تبلّغه المسؤولون اللبنانيون من عراقجي:

سقوط خطوط الدّفاع الأولى؟

– أنّ الولايات المتحدة الأميركية “ستمنع أيّ اتفاق في مجلس الأمن على وقف النار. فهي التي أعطت الضوء الأخضر لإسرائيل كي تشنّ الحرب على لبنان والمقاومة”. وأضاف مصدر وزاري لبناني لـ”أساس” إلى ذلك أنّ المشكلة تكمن في عدم استعداد تل أبيب وواشنطن لبحث وقف النار، فالأمور متروكة للميدان. وأشار المصدر نفسه إلى أنّه ترافق الحاجة الملحّة إلى وقف النار في لبنان، قناعةٌ بأنّ إسرائيل وأميركا تستغلّان الظرف المناسب بعدما انكشفت إيران وباتت في مواجهة معهما بشكل سافر إثر تراجع قدرات أذرعها التي تشكّل خطّ الدفاع الأوّل عنها.

– أنّه “يجب عدم السكوت” حيال الموقف الأميركي والهجوم الإسرائيلي، بل يفترض رفع الصوت وتجييش الرأي العام الدولي ضدّ إسرائيل وأميركا. فذلك يؤدّي إلى تحريك المستوى السياسي في المجتمع الدولي للضغط على إسرائيل.

إسرائيل وأميركا تستغلّان الظرف المناسب بعدما انكشفت إيران وباتت في مواجهة معهما بشكل سافر إثر تراجع قدرات أذرعها

– عراقجي اقترح على برّي وميقاتي أن يشمل التحرّك اللبناني الضاغط لأجل وقف النار الدعوة إلى قمّة عربية واجتماع على مستوى القمّة لمنظّمة التعاون الإسلامي لاتّخاذ موقف متشدّد إزاء العدوان الإسرائيلي.

– الجانب اللبناني ردّ بأنّ بري وميقاتي عملا لأجل وقف النار في مجلس الأمن ووافقا على النداء الأميركي الفرنسي الذي تبنّته دول عربية وغربية أخرى، إلا أنّ إسرائيل رفضته. وأوضح ميقاتي لعراقجي أنّ رفع الصوت “الذي تدعونا إليه نقوم به منذ زمن”، إذ صدر موقفان عن مجلس الأمن لوقف الحرب لم يُنفّذا. وأقصى ما جرى التوصّل إليه هو نصّ النداء الأميركي الفرنسي على هدنة الـ21 يوماً للتفاوض على تطبيق القرار 1701.

إيران

– اعتبر ميقاتي في ردّه على اقتراح عراقجي دعوة لبنان إلى قمّة عربية، أنّ الجامعة العربية بحثت الحرب الدائرة في لبنان أكثر من مرّة ولا تستطيع أكثر من إصدار بيانات التضامن بمواجهة الحملة. أمّا بالنسبة إلى الدعوة إلى عقد قمّة إسلامية عربية مشتركة، فقد نصح ميقاتي بأن تتشاور طهران مع المملكة العربية السعودية في هذا الصدد.

– أبلغ مصدر رسمي لبناني “أساس” أنّ طهران لجأت إلى بغداد كي تقترح عقد قمّة عربية، وتبيّن أنّ إمكانية التئامها غير متوافرة. لكنّ العراق اقترح عقد قمّة عربية إسلامية. وأشار مصدرٌ دبلوماسي عربي إلى أنّ الاتصالات مستمرّة في شأنها، لكنّها تتمّ بغضّ النظر عن مطالبة إيران بها، وتنتظر تحديد ما سيصدر عنها “حتى لا تأتي النتائج مخيّبة”. ووصف المصدر الدبلوماسي العربي الموقف الخليجي من اقتراح طهران للقمّة المشتركة بأنّه “متحفّظ”.

قنوات التّفاوض مع أميركا عبر الخليج؟

التّمهيد للتفاوض مع الأميركيين: كثّفت طهران زيارات مسؤوليها لدول الخليج العربي لطلب التضامن معها ومع لبنان، بمواجهة الاندفاعة الإسرائيلية. وراهنت على أن تؤدّي تقوية موقف الحزب وترميم قدراته والتهديد بردّ كبير على الضربة الإسرائيلية المنتظرة، إلى تفعيل التفاوض مع واشنطن.

التوجّهات الثلاثة التي تعتمدها إيران بمواجهة الاندفاع الإسرائيلي لتجريدها من أسباب القوّة الإقليمية تخدم بعضها بعضاً

– اغتنم الرئيس مسعود بزشكيان حضوره للقمّة الثالثة لحوار التعاون الآسيوي التي تستضيفها قطر، في 3 تشرين الأول، فالتقى أميرها تميم بن خليفة آل ثاني ثمّ وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان آل سعود، وقال “إنّنا لا نرحّب أبداً بزيادة التصعيد والأزمة في المنطقة، والعملية الحازمة الأخيرة جاءت كردّ مشروع على مواصلة الكيان جرائمه بعد الوعود الكاذبة بإقرار وقف إطلاق النار في غزة لقاء تحلّي إيران بضبط النفس”. بدا أنّه يحمّل قطر والسعودية رسالة استعداد للتفاوض مع واشنطن. وأضاف: “إذا لم نتّحد في مواجهة الاعتداءات، فاليوم غزة ولبنان، وغداً يصل الدور إلى باقي المدن والبلدان الإسلامية”.

– عاد عراقجي وزار الرياض في 10 تشرين الأول والتقى الأمير محمد بن سلمان، وعبّر عن أمله أن تؤدّي محادثاته إلى “تحقيق السلم الإقليمي وخلق ظروف أفضل في المنطقة لفلسطين ولبنان”.

إقرأ أيضاً: تنفيذ 1701… يسقط ثلاثية “الجيش والشعب والمقاومة”

– اعتبر مراقبون أنّ سهولة هبوط طائرتَي عراقجي ثمّ قاليباف في مطار بيروت على الرغم من التهديد الإسرائيلي بضرب الطائرات الإيرانية لم تكن لتحصل لولا تدخّل أميركي ما لإجازة ذلك. فواشنطن هي الأخرى تريد الاحتفاظ بخطوط التواصل مع طهران، مع أنّها تدعم تل أبيب في تقليم أظافرها في لبنان والمنطقة. وتردّدت أنباء عن تفعيل التواصل غير المباشر عبر سلطنة عُمان، سواء بالنسبة إلى استيعاب الضربة الإسرائيلية المتوقّعة للأراضي الإيرانية أو لتبريد المواجهة في لبنان.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@ChoucairWalid

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…