إنّها الحرب من جديد.
وكما في كلّ حرب، تتكرّر مشاهد القتل والدمار والنزوح. وتتكرّر معها المآسي. ولا يُدركها سوى من عاشها. “ما بيعرف شو الحكاية إلا اللي دايق المغرايي”، قالت لي والدتي بالأمس. وهي “داقتها” عدّة مرّات. هذه المرّة المآسي أشدّ هولاً: إسرائيل أكثر توحّشاً. والولايات المتّحدة الأميركيّة أكثر تواطؤاً. والمجتمع الإقليميّ أقلّ حماسةً للمساعدة. وإيران أكثر عجزاً. والحزب أكثر إصراراً على تقديم اللبنانيين “شهداء على طريق القدس”!
منذ أن أدرج رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو إعادة مستوطني شمال إسرائيل إلى قراهم وبلداتهم ضمن أهداف حربه على غزّة بدا أنّ قرار الحرب على لبنان قد اتُّخذ. أكّد ذلك تصريح يوآف غالانت بأنّ الجهد العسكري الإسرائيلي سوف ينتقل من الجنوب (في غزّة) إلى الشمال (على الحدود مع لبنان). بدأت إرهاصات الحرب يومَي الثلاثاء والأربعاء بتفجير شبكات الاتّصال الخاصّة بالحزب وإخراج حوالي 3,000 من مقاتليه من الخدمة. تبعه اغتيال قائد قوّة الرضوان إبراهيم عقيل مع أركانه يوم الجمعة الفائت.
على الرغم من ذلك، بقي بعض السياسيين والدبلوماسيين والمراقبين يستبعدون الحرب الشاملة لسببين:
1- خشية إسرائيل من حرب شاملة مع الحزب الذي بإمكانه استهداف إسرائيل في العمق حتى تل أبيب وأبعد منها (بالأمس فعلها).
2- عدم قدرة إيران والحزب على خوض حرب شاملة. من هنا تراجع إيران عن الردّ على اغتيال إسماعيل هنيّة بما سمّي “التراجع التكتيكيّ” وردّ الحزب الضعيف على اغتيال الرجل الأوّل في تنظيمه العسكري فؤاد شكر.
كما في غزّة، كذلك في لبنان، واشنطن ليست جدّية في وقف الحرب
هل وقف النار ممكن؟
بيد أنّ محاولات حكومة الحرب الإسرائيليّة المتكرّرة استدراج الحزب وإيران إلى حرب شاملة وإصرار الحزب على عدم “التراجع التكتيكيّ”، كما فعل راعيه الإقليميّ، كذّبا كلّ التقارير والتحليلات. وها هي الحرب قد بدأت. السؤال الآن: هل من إمكانية لإيقافها؟
يمكن الحصول على الجواب من حرب غزّة. هل استطاع أحد إيقاف حرب غزّة المندلعة منذ قرابة سنة؟
الضغوطات الأميركيّة لم تكن جدّيّة، والوساطات العربيّة عجزت عن تحقيق ولو هدنة، كذلك التحرّكات الأوروبيّة. أمّا التقارير الدوليّة وصرخات الأمين العامّ للأمم المتحدة فلم تؤثّر إلا في ضمائر الناس والرأي العامّ، لكن ليس في المتحاربين. فاستمرّ نتنياهو في وحشيّته والسنوار في عناده. سقط من أبناء غزّة 42 ألفاً وأكثر من 100 ألف جريح، ودمّر أكثر من 60% من القطاع، ولم تتوقّف الحرب.
كما في غزّة، كذلك في لبنان، واشنطن ليست جدّية في وقف الحرب. من جهة تنسّق مع الفرنسيين لوقف النار، ومن جهة أخرى ترسل مساعدات عسكريّة أميركيّة لاسرائيل بقيمة ٨،٧ مليار دولار. بالتالي أيّ وساطة إقليميّة أو دوليّة لن يمكنها إيقاف الحرب. قبل توجّهه الى نيويورك قال أن “أي مفاوضات تهدئة ستكون تحت النار“. ما يعني أنّه مصمّم على الحرب. من جهته حسن نصرالله في كلمته بعد تفجيرات البيجرز وأجهزة اللاسلكيّ أكّد تصميمه على المواجهة وإصراره على الاستمرار في “حرب الإسناد”.
إذاً لبنان أمام حرب نجهل تفاصيلها وأيّ سيناريو رُسم لها وكم ستستغرق من الوقت. هل تكون حرباً تشمل كلّ لبنان؟ هل يتبع القصفَ المدمّرَ اجتياحٌ برّي لإبعاد عناصر الحزب عن الحدود الإسرائيليّة 10 كيلومترات (ولا نعرف لماذا 10 كلم في حين أنّ صواريخ الحزب تطال إسرائيل عن بعد أكثر من 100 كلم!)؟
الضغوطات الأميركيّة لم تكن جدّيّة، والوساطات العربيّة عجزت عن تحقيق ولو هدنة، كذلك التحرّكات الأوروبيّة
إيران منكفئة
سؤال آخر أساسيّ: أين إيران من هذه الحرب؟
في 8 تشرين الأوّل أطلق الحزب حرب الإسناد من جنوب لبنان نصرة لغزّة. ومن المؤكّد أنّ قراره كان منسّقاً مع إيران، وربّما تلبية لطلبها. السؤال أين إيران من الحرب على الحزب اليوم؟ هل تأتي لنصرته؟ ميليشياتها في سوريا والعراق وصولاً إلى اليمن أعجز من نصرة الميليشيا الأمّ، فهل تأتي هي بحرسها الثوريّ لنصرته؟
جاء الجواب على لسان رئيس الجمهوريّة الإيرانيّ نفسه. قال مسعود بزشكيان: “نحن نعلم أكثر من أيّ طرف آخر أنّه إذا اندلعت حربٌ أوسع نطاقاً في الشرق الأوسط، فلن يكون ذلك في مصلحة أحد”. وتشكّك في قدرة الحزب على الصمود بوجه إسرائيل بالقول: “وحده لا يستطيع أن يقف في وجه دولة مسلّحة تسليحاً جيّداً جدّاً، ولديها القدرة على الوصول إلى أنظمة أسلحة تتفوّق بكثير على أيّ شيء آخر”. وزير خارجيّته عباس عراقجي كان أكثر وضوحاً. قال إنّ إيران في “كامل اليقظة” و”لن تقع في فخّ إسرائيل”. هذا الكلام دلّ على انكفاء إيران عن دعم ذراعها الأولى في المنطقة ولو أن تصريحات أخرى صدرت بعد ذلك حاولت التخفيف من وطأة ما قالاه بزكشيان وعراقجي.
لبنان أمام حرب نجهل تفاصيلها وأيّ سيناريو رُسم لها وكم ستستغرق من الوقت
سؤال للسّيّد
من هنا السؤال المحوريّ، وهو موجّه إلى السيّد حسن نصرالله شخصياً:
على ماذا ارتكزت في حرب الإسناد التي أطلقتها منذ سنة نصرة لغزّة التي لم تمنع تدمير القطاع وقتل أهله وأدخلت لبنان في الحرب؟
سؤال يستوجب الإضاءة على مجموعة معطيات:
1- كان مؤكّداً أنّ الولايات المتحدّة ستدعم إسرائيل كما في عام 1973 وأكثر. وهذا ما حدث.
2- إيران المنهكة اقتصادياً لا تستطيع الدخول في حرب. وميزان القوى العسكريّ مع إسرائيل ليس لمصلحتها. فهي تستخدم ميليشياتك وباقي الميليشيات للمفاوضة من جديد على ملفّها النوويّ ورفع العقوبات الأميركيّة عنها وعلى دور لها في المنطقة.
3- المجتمع الدوليّ عاجز عن ردع آلة الحرب الإسرائيليّة. فهي الدولة الأولى في العالم بعدم تطبيقها لقرارات الأمم المتحدة.
لبنانيّاً غنيّ عن القول أنّ البلد غير جاهز لخوض الحرب:
1- سياسياً فراغ وانقسام. لا رئيس، والحكومة تقوم بتصريف الأعمال، والمجلس النيابيّ منقسم عموديّاً وبشكل حادّ. أكثر من نصفه رافض للحرب. ومن يؤيّدك من أعضائه فلا حول له ولا قوّة، حتى النواب الشيعة.
2- اقتصادياً، البلد في الحضيض منذ الانهيار الشامل الكبير الذي بدأ بعد “انتفاضة 17 تشرين”. وزادت من حدّته جائحة كورونا وانفجار المرفأ الذي تسبّب دعمك العسكريّ لنظام بشّار الأسد به.
3- ماليّاً، فقدت الليرة اللبنانيّة 100% من قيمتها. القطاع المصرفيّ مضروب. الخزينة فارغة. المصرف المركزيّ عاجز عن إمداد الدولة بالدولارات كما كان يفعل رياض سلامة.
إقرأ أيضاً: لبنان ضحيّة منطق إيران… ولامنطق الحزب
4- اجتماعيّاً، كلّ التقارير الدوليّة واللبنانيّة تشير إلى أنّ الفقر المدقع طال أكثر من 50% من الشعب اللبنانيّ. والغلاء تخطّى ما كان عليه قبل عام 2019.
5- طبيّاً، المستشفيات منهكة. خسرت العديد من كوادرها الطبيّة. وتفتقد الى الكثير من الادويّة بفعل الازمة…
لبنان في مواجهة الحرب. قوّة ردع الحزب لم تردع إسرائيل عن تنفيذ الاغتيالات وشن الغارات. هل يحضّر نتنياهو لغزو برّي؟
لمتابعة الكاتب على X: