“غد بظهر الغيب واليوم لي وكم يخيب الظنّ بالمقبل
ولست بالغافل حتى أرى جمال دنياي ولا أجتلي
لبست ثوب العيش لم أستشِر وحرت فيه بين شتّى الفكر
وسوف أنضو الثوب عنّي ولم أدرك لماذا جئت، أين المفرّ”
(رباعيّات الخيّام بتصرّف أحمد رامي)
تنسب مسألة الكذبة النبيلة إلى أفلاطون في كتاب “الجمهورية” في سياق طرحه للحاجة إلى أسطورة رمزية، يظنّها صغار السنّ وقليلو المعرفة والبسطاء بأنها حقيقة تاريخية، لأنّها تسهّل تماسك المجتمع وتعاونه في خدمة قضية عامّة، هي المدينة الفاضلة. أمّا بالنسبة لأصحاب السلطة، فنادراً ما يكونون مقتنعين بصحّة الأسطورة، لكنّهم يجدون فيها وسيلة مفيدة لقيادة الناس.
كذلك هو الحال بالنسبة لذوي الألباب، فهم مع قناعتهم بأنّ الأسطورة قد لا تمتّ إلى الواقع بصِلة، لكنّهم يتماشون معها لأنّها تحقّق الاستقرار وتخفّف من التساؤلات المحرجة من الجيل اليافع. مثل الكذبة النبيلة في جمهورية أفلاطون هو كون الأولاد ينبتون من الأرض حتى لا يكون لهم أب وأمّ خاصّان بهم، بل هم أبناء المدينة وكلّ الرجال آباؤهم وكلّ النساء أمّهاتهم، واليافعون كلّهم أخوتهم وأخواتهم. بالطبع تتبخّر تلك الأسطورة عند بلوغ اليافعين سنّ الإنجاب المبرمج والموسمي لخدمة المدينة. هدف تلك الكذبة هو قطع دابر الشخصانية والعائلية في إدارة الحكم من ناحية محاباة الأولاد، كما دفعت الجميع إلى التعاون برابط عامّ بدل العائلة الصغيرة.
الإشكال عند معظم البشر هو أنّ التقليد الكلامي الموروث اجتماعياً هو ما يمثّل الحقيقة المطلقة التي لا تحتاج إلى إثبات
قصّتي مع الشّيخ
منذ بضع سنوات، حضّر بعض الأصدقاء لقاءً لي، في مجال السعي إلى الحوار بين اللبنانيين، مع أحد المشايخ، وهو أستاذ جامعي، لكن لا أعلم في أيّة مادّة، وله تصريحات عجيبة غريبة في مواضيع شتّى، لكنّه بالإجمال من أتباع الحزب وعلى الأرجح تخرّج من مدارسه التي فرضت نفسها كمصدر مهيمن على فكر جمهور الحزب، مع أنّ الاجتهادات الدينية التي يستند إليها تصادمت في الكثير من الأحوال والأحيان والأشكال مع مرجعيات شيعية كبرى، محلّياً وإقليمياً، وأحياناً بشكل دموي. لكنّها بالنهاية تمكّنت من الهيمنة بسطوة المال ووهج السلاح ووهم المنعة بتوحيد الكلمة تحت راية واحدة هي ولاية الفقيه، حتى وإن كانت فكرة غير منطقية لأولي الألباب.
لكن لا عجب، فليس المنطق هو ما يحشد الجموع الغفيرة ويوحّدهم بفكر واحد، بل هو حتماً غياب المنطق وضحالة الفكر، وفقدان القدرة على طرح السؤال المنطقي، إمّا لأنّ التيار جارف، أو لأنّ ذا العقل لا يريد أن يشقى بعقله، فيفضّل اتّباع أخي الجهالة المتنعّم. حتى إنّ أحد أصدقائي القدماء الشيوعيين أصبح فجأة من أتباع ومنظّري ولاية الفقيه، وحين سألته قال: “ألم ترَ كم من الناس يجتمعون حوله في خطبة الجمعة في جامعة طهران؟”، ففهمت أنّ التيار قد جرفه وانحرف به عن تحكيم العقل.
واقعية حلم الوليّ الفقيه الإمبراطوري أساسها هو أنّ عشرات آلاف الشيعة من غير الفرس تطوّعوا بحيواتهم وهم مؤمنون برخصها في سبيل تحقيق رؤيا نهاية العالم
بالعودة إلى اللقاء الذي انحرفت عنه استطراداً في مستهلّ الحوار، قلت للدكتور الشيخ: “سماحتك، أنا متعاطف لأقصى الحدود مع الإمام الحسين ومتأثّر بسيرته كما وصلتنا، بغضّ النظر عن مدى دقّتها التاريخية، فكلّ ما وصلنا تقريباً عن القرن الأول ونصف القرن الثاني الهجري، كان بالتناقل الشفوي، ولذا يفتقر إلى الدقّة وتعتريه المشاعر الجيّاشة الوقتيّة ويشوبه الاستعمال السياسي، كما الغرضية الشخصية والمجتمعية. لكن لا يمكن لأيّ بشري سويّ العقل والمشاعر إلا التعاطف مع المظلوم والمستضعَف، وعلى الرغم من أنّ كلامي قد أثار ويثير الكثير من اللغط لدى جموع السنّة، فأنا أجرّم فعل يزيد وأرفضه، وأرى في معاني استشهاد الحسين الكثير من العبر الشخصية حول التضحية في سبيل الحق…”. سكتُّ لثوانٍ علّني أسمع بعض الجواب، فكان الجواب نصف ابتسامة مرسومة عنوة على وجه الدكتور الشيخ.
أكملت: “ما يحيّرني، سماحتك، هو الإصرار على تصوير تلك الرواية واستعادتها على أنّها أساس الصراع المذهبي اليوم وسببه. لكن ما دخل أهل السنّة اليوم بما قام به يزيد منذ أربعة عشر قرناً؟ وما المفيد من تأجيج الأحقاد وإثارة المشاعر في كلّ استعادة للمشهدية الكربلائية كلّ سنة؟”. انتظرت بضع دقائق فلم أحصل على جواب سوى نصف الابتسامة ذاتها على وجهه، فاعتبرت ابتسامته اختصاراً للحوار، فانتهى الاجتماع.
الدرس الذي لم يتعلّمه البشر، ومن ضمنهم أتباع المرشد، هو أن لا أحد منهم يمتلك التاريخ ولا المستقبل
الجبهتان الحسينيّة واليزيديّة
تذكّرت هذه الحادثة بعدما سمعت قول الوليّ الفقيه علي خامنئي إنّ المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية هي معركة مستمرّة، وقد حدّد الإمام الحسين ماهيّة هذه المعركة وهدفها، قائلاً إنّ “رسول الله، صلّى الله عليه وعلى آله، قال: من رأى سلطاناً جائراً. القضيّة قضيّة الظلم والجور، الجبهة الحسينية تقاوم اليوم الجبهة اليزيديّة، أي جبهة الظلم والجور”. كان هذا في ظلّ الحيرة التي وقع فيها أتباعه ومؤيّدوه من غموض الصبر الاستراتيجي الذي أحاط بوعد الردّ العظيم على إهانة “شرف” إيران باغتيال ضيفها على أراضيها، وفي عمق حماية الحرس الثوري، درّة تاج الوليّ الفقيه وأداته لتحقيق الحلم الإمبراطوري الأخمينيّ-الساسانيّ-الصفويّ. واقعية هذا الحلم اليوم هي باختلاطه بالروايات المقدّسة النابعة من التقاليد الكلامية قبل أن تكتب بتصرّف، لتداعب المشاعر وتهيّج الأحاسيس.
واقعية حلم الوليّ الفقيه الإمبراطوري أساسها هو أنّ عشرات آلاف الشيعة من غير الفرس تطوّعوا بحيواتهم وهم مؤمنون برخصها في سبيل تحقيق رؤيا نهاية العالم، حاجزين لأنفسهم مكاناً في الفئة الناجية! لكنّ هذه الرؤيا تستند أيضاً إلى الوعد الصادق بالردّ على الاستكبار وشياطينه الكبار، نصرة للمستضعفين، كمقدّمة للنزال العظيم بين الخير والشرّ. هنا يدخل مبدأ الصبر الاستراتيجي كحكمة ماورائية آتية من الوحي المقدّس. ولتأكيد هذا الأمر، ولإخراج الأتباع الحائرين من حيرة الصبر، يعود المرشد الأعلى، وكيل صاحب الزمان وظلّه في الغيبة، إلى التذكير بأنّ كلّ التضحيات مرصودة للمعركة الأسطورية الأزلية بين اليزيديّين والحسينيّين، وأنّ النصر آت لا محالة لأنّه من خارج عالم البشر البائدين الذين يصعب عليهم فهم الحكمة من الصبر الاستراتيجي، وهو صبر منطقي، ليس لأنّه من عالم آخر، بل لأنّه ببساطة مبنيّ على حسابات الربح والخسارة للحفاظ على الحدّ الأدنى من المكتسبات الإمبراطورية، في ظلّ الضعف في القوّة.
يعود المرشد الأعلى، وكيل صاحب الزمان وظلّه في الغيبة، إلى التذكير بأنّ كلّ التضحيات مرصودة للمعركة الأسطورية الأزلية بين اليزيديّين والحسينيّين
إشكاليّة الحقيقة المطلقة
الإشكال عند معظم البشر هو أنّ التقليد الكلامي الموروث اجتماعياً هو ما يمثّل الحقيقة المطلقة التي لا تحتاج إلى إثبات، ولا حاجة إلى بذل أيّ جهد للتأكّد من صحّة تفاصيلها، فهي بالضبط كما أتت على لسان الجدّة، أو من خلال جلسات تلقينيّة، أو بناءً على أدبيّات مكتوبة من دون التدقيق بمصادرها، على الرغم من كونها هي أيضاً تعبّر عمّا سمعه الكاتب بالتقليد الكلامي، أو أنّه يعتمد على انطباعاته الشخصية التي لا يمكن التأكّد من كونها موضوعية أو شخصانية، أو كتبت من أجل خدمة رؤيا السلطان، وليس توثيق الحقائق. المصيبة هي أنّ هذه الأمور والتوجّهات لا تنطبق فقط على اليقينيات الدينية الطابع، بل هي تشمل اليقينيات العلمانية السياسية، مثل العنصرية والفاشية والنازية والصهيونية غير الدينية والليبرالية التي تظنّ أنّها نهاية التاريخ لأنّها تمثّل أعلى وأنقى وأفضل اليقينيات على الأرض. كذلك هم اليوم المؤمنون بنهائية التاريخ في العلوم التي ترتقي بالإنسان إلى ما بعد الإنسان.
إقرأ أيضاً: تواطؤ الجماهير مع القائد الملهم!
الدرس الذي لم يتعلّمه البشر، ومن ضمنهم أتباع المرشد، هو أن لا أحد منهم يمتلك التاريخ ولا المستقبل، وأنّ ما يذكرونه من تقاليد ويبنونه من يقينيّات هي مجرّد لمحة خاطفة من الزمن.
لمتابعة الكاتب على X: