“الشعب قام يسأل على حقوقه والثورة زي النبض في عروقه
اللي النهارده يحقّقه ويرضاه لا بد بكرة بهمّته يفوقه
ثوّار مع البطل اللي جابه القدر رفعنا راسنا لفوووق لمّا ظهر
بوسنا السما ويّاه ودوسنا الخطر والعزم ثابت والعزيمة حديد” (صلاح جاهين)
سقى الله أيّام الطفولة، يوم كنّا نصدّق كلّ رواية نسمعها عبر الإذاعة، أو لاحقاً عبر محطّات التلفزيون الرسمية. ما زلت أذكر يوم صار عندنا جهاز تلفزيون من ماركة “غروندغ”، كان والدي يقضي نصف وقته في توجيه الهوائيّ على السطح ليتمكّن من التقاط محطّة “تلفزيون الجمهورية العربية المتحدة”. في أحد الأيام الصافية، كانت السيّدة أمّ كلثوم على الشاشة، تنشد أغنية “ثوّار” لصلاح جاهين ومن تلحين المبدع رياض السنباطي. عند ذكر “البطل اللي جابه القدر”، كانت تشير بيدها إلى القائد الباسم الجالس في صدارة القاعة، والجماهير تهتف من ورائه. لم أعد أذكر اليوم إن كانت تهتف للقائد أم لأم كلثوم، لكنّ حال الطرب كانت تعمّ الجميع. في تلك الأيام كنت أتصوّر أنّ أمّ كلثوم هي “الأمّة العربية” لأنّها “أمّ” وتغنّي للعرب والعروبة! مضى زمن طويل قبل أن أتأكّد أنّها كانت بالفعل الأمّة العربية لأنّها الشيء الوحيد الذي جمع معظم العرب في جوقة الطرب.
حماية القائد الملهم والحكيم من المحاسبة على الرهانات الخاطئة، ومن بعدها العودة من جديد إلى المسار الكارثي
أيّام أحمد سعيد…
كان ذلك قبل أيّام آفة انتشار كلّ وسائل الإعلام التي تنقل الخبر في لحظة وقوعه، وبوجهات نظر متعدّدة، وهو ما زاد في الحيرة في اتخاذ القرار بسبب جهل ماهية الحقيقة. كانت أيام عزّ عندما كان أحمد سعيد يصدح من “صوت العرب من القاهرة”، ليعطي النشرة الرسمية للحقيقة. فكان العروبيون المتحمّسون يصدّقون كلّ كلمة يقولها، ثمّ كانوا يقسّمون الناس بين وطنيين عرب، إن صدّقوا وتبعوا تعليمات أحمد سعيد، وعملاء ورجعيين إن تشكّكوا في كلامه. كان العالم أبسط من اليوم، وحتى التلفزيون كان بالأبيض والأسود، ولا مجال لأيّ لون آخر.
كانت جماعة أحمد سعيد تحتفل بأخبار صواريخ الظافر والقاهر، وبأنّ مصر لديها أقوى جيش في الشرق الأوسط، فيما كان بعض الكفّار العملاء يتشكّكون في الحديث، ويعتقدون أنّ الأمر مبالغة وحسب، لكنّ معظم هؤلاء كانوا يلتزمون الصمت حتى لا تهبط المعنويّات، أو حتى لا يُتّهموا بالعمالة للعدوّ لأنّهم يتشكّكون في قدرات الأمّة على المواجهة المقدّسة مع العدوّ. كان هذا إلى أن فاز المتشكّكون وأُحبط المصدّقون، وأصبح أحمد سعيد مادّة للتندّر، وإن كان ببعض التحبّب أحياناً، على أساس افتراض أنّه كان حسن النيّة!
المسؤوليّة على النّاس
في صبيحة يوم الخامس من حزيران سنة 1967، استمرّ صوت العرب من القاهرة بإذاعة أخبار الانتصارات العربية، مع العلم بأنّ طائرات العدوّ أنهت الحرب وحسمتها منذ ساعاتها الأولى. أمّا أمّ كلثوم فقد استمرّ صوتها مع عبد الحليم وعبد الوهاب والآخرين يصدح بأغاني الانتصار: “جيش العروبة يا بطل الله معك… ما أشجعك ما أمنعك…”، لكن هل من المنطق لوم أحمد سعيد على استمراره في الترويج للانتصارات العربية، وهو موظّف رسميّاً لبناء الدعاية عن الانتصارات، أو تحميل أمّ كلثوم ورفاقها وزر الهزيمة وقد يكونون مقتنعين بالكامل بصحّة كلامهم وغنائهم، أو على الأرجح كان يأتي التقرير بما يجب إذاعته من دائرة المخابرات، وأحمد سعيد وأمّ كلثوم ورفاقهما كانوا يستعملون مهاراتهم في تلوين الكلام بالانفعالات اللازمة والإيقاع الجميل لإقناع وإبهار المستمعين، المصدّقين سلفاً لكلّ ما سيقولونه؟
كان مندوب سورية في الأمم المتحدة قد أعلن سقوط مدينة القنيطرة عاصمة الجولان، في الوقت الذي كان فيه ضبّاط وجنود يقاتلون دون أوامر على الجبهات هناك
لكن في النهاية بعدما اكتشف الناس حجم الكارثة وضخامة الهزيمة التي سمّيناها “نكسة”، لم يكن أحمد سعيد هو من دفع القائد “الخالد” للتراجع عن أحكم قرار ربّما اتّخذه خلال حكمه، وهو الاستقالة. كان المسؤولون هم الناس الذين تدفّقوا إلى الشوارع لثني الرئيس عن قراره، ومسامحته من دون حساب على السقطات وسوء الدراية وضعف الحيلة، وبالتالي فتح الباب لخيارات أخرى غير تلك التي فشلت. وضع الجميع الحقّ على الخيانة والمؤامرة، وذهب بعض اليساريين إلى اتّهام أمّ كلثوم ورفاقها المطربين بنشر الميوعة وتخدير الجماهير! وحصر المرض ببعض مساعدي الرئيس، فحمت الجماهير بمساعدة المخابرات وجهاز الدعاية الرئيس من المساءلة والمحاسبة، وربّما المحاكمة. وما زالت مصر حتى يومنا هذا، وعلى الأرجح لأمد غير منظور، ترزح تحت أوزار حماية القائد من الحساب.
عندما قال الأسد “عُلِم”
أمّا الفضيحة الكبرى فقد كانت انشغال القيادة البعثية في سورية أثناء الحرب بشيء واحد فقط، وهو الحفاظ على الوحدات العسكرية المحسوبة على النظام، وهي القوات الأكثر تسليحاً وكفايةً بين وحدات الجيش السوري. في التاسع من حزيران، وبعد بداية المعارك المباشرة على جبهة الجولان، انسحبت القوات السورية بشكل عشوائي ابتداءً بقيادتها. يروى أنّ بعض الضبّاط الكبار فرّوا سيراً على الأقدام، بعدما خلعوا ثيابهم العسكرية، تاركين جنودهم في ساحة المعركة من دون أوامر. وبما أنّ الجولان الذي احتلّته القوات الإسرائيلية يبعد أربعين كلم فقط عن دمشق، انتقلت قيادة الحزب والدولة إلى حمص، مسلّمةً مسبقاً بسقوط العاصمة، أو وقوعها تحت الحصار.
كان مندوب سورية في الأمم المتحدة قد أعلن سقوط مدينة القنيطرة عاصمة الجولان، في الوقت الذي كان فيه ضبّاط وجنود يقاتلون دون أوامر على الجبهات هناك. عندما اتّصل أحد الضبّاط المتوسّطي الرتبة، ممّن بقوا في ساحة المعركة، بوزير الدفاع حافظ الأسد لتلقّي الأوامر وليخبره بأنّ القتال مستمرّ في القنيطرة وحولها، كان جواب الوزير “عُلم!” وأقفل الخطّ.
كانت أيام عزّ عندما كان أحمد سعيد يصدح من “صوت العرب من القاهرة”، ليعطي النشرة الرسمية للحقيقة. فكان العروبيون المتحمّسون يصدّقون كلّ كلمة يقولها
حرمت نتائج الحرب، وإمعان القيادة البعثية في تغطية فضيحتها، المئات من أبطال الجيش السوري من شرف الذكرى، وهم الذين قاتلوا ببسالة في معركة كبيرة في “تلّ الفخّار” واستشهدوا على أرض المعركة. لكن، في اليوم التالي للهزيمة، ظهرت الصحف ووسائل الدعاية في سورية لتؤكّد الانتصار “لأنّ العدوّ فشل في القضاء على الطليعة الثورية الوحيدة المؤهّلة لقيادة الأمّة العربية في معارك النصر في الجولات المقبلة”، واستعانوا بالمغنّية دلال الشمالي وهي تردّد “من قاسيون أطلّ يا وطني وأرى دمشق تعانق السحبا… آذار يدرج في مرابعها والبعث ينثر فوقها الشهبا”، في تحوير لقصيدة خليل الخوري الجميلة لتخدم دعاية البعث.
أدلى وزير الخارجية السوري الدكتور إبراهيم ماخوس بتصريح عجيب هذا نصّه: “ليس مهمّاً أن تسقط دمشق أو حتى حلب وحمص، فهذه كلّها أراض يمكن استرجاعها وأبنية يمكن تعويضها، أمّا إذا قُضي على حزب البعث فكيف يعوّض عنه وهو أمل الأمّة العربية؟ لا تنسوا أنّ هدف العدوان هو القضاء على الحكم التقدّمي في سورية، وكلّ من يطالب اليوم بإسقاط الحزب هو عميل لإسرائيل”.
في النهاية بعدما اكتشف الناس حجم الكارثة وضخامة الهزيمة التي سمّيناها “نكسة”، لم يكن أحمد سعيد هو من دفع القائد “الخالد” للتراجع عن أحكم قرار
سواسية في الكذب
تذكّرت هذه الأمور قبل أيّام عندما خرجت جحافل من مصدّقي الوعود الصادقة للاحتفال بالنصر لمجرد أنّ الصواريخ انطلقت من منصّاتها وحقّقت، من دون دلائل، أهدافها غير المعلومة. بالمقابل، قامت وسائل الدعاية العدوّة بنسج سيناريو يدّعي النصر بإحباطه الهجوم ومنع معظم الصواريخ من الانطلاق، وتدمير معظم ما انطلق منها. كالعادة ضاعت الحقائق في حمأة الدعاية، واحتفل الجانبان بالنصر، وبعثا رسائل طمأنة للجمهور بأنّ الأهداف قد تحقّقت.
إقرأ أيضاً: خدمة العدوّ من دون عمالة
لكن من مات قد مات ومن فقد بيته وباب رزقه، على الأقلّ من الجانب اللبناني، ليس عنده من يعوّض له غير الوعد الصادق بالنصر، وبالتالي حماية القائد الملهم والحكيم من المحاسبة على الرهانات الخاطئة، ومن بعدها العودة من جديد إلى المسار الكارثي. هي حلقة مفرغة من الموت والدمار، قوامها التواطؤ بين قائد عظيم يعد بالنصر، يطرب الجماهير فتشجّعه على المزيد بالمديح والثناء والهتاف في الساحات أمام وثن الشاشات العملاقة: “لبّيك، لبّيك، لبّيك”.
لمتابعة الكاتب على X: