“فريق التحقيق الأممي في جرائم داعش أنهى عمله بناء على طلب الحكومة العراقية”.
الصادم في الخبر أنّ الفريق الذي تمّ تأسيسه قبل سبع سنوات قد تمكّن من جمع آلاف الأدلّة التي تدين أعضاء في التنظيم الإرهابي، كما أنّه استمع إلى شهادات الضحايا… لا يثق بالقضاء العراقي باعتباره قضاء مسيّساً. كما أنّ هناك اختلافاً في ما يتعلّق بعقوبة الإعدام. والأهمّ تأكيد فريق التحقيق ضرورة أن يُحاكم المتّهمون خارج العراق بعدما ثبت له أنّ السلطات العراقية لا تفرّق بين الانتماء إلى داعش وبين ارتكاب جرائم القتل والاغتصاب.
في البداية لا بدّ من طرح السؤال التالي: هل من مصلحة النظام السياسي في العراق الكشف عن كلّ أسرار التنظيم الإرهابي “داعش”؟
سؤال غريب فعلاً. ذلك لأنّ العراق هو من أكثر الدول التي تضرّرت بظهور ذلك التنظيم المتشدّد الذي يرفع الراية السوداء في غزواته.
ربّما لهذا السبب يشعر النظام السياسي في العراق بالحرج. فعلى الرغم ممّا حدث من خراب سببه احتلال الموصل ومناطق غرب العراق، وعلى الرغم من أنّ مسؤولية ما حدث تقع على عاتق النظام، إلا أنّ ذلك النظام لا يزال مستمرّاً.
فساد النّظام والهاجس الطّائفيّ
ما يصلح أن يكون موضع سخرية سوداء أنّ الرجل الذي أعطى أوامر الانسحاب التي كانت السبب في هزيمة القوات المسلّحة العراقية في معركة لم تحدث، هو نوري المالكي. وهو لا يزال موجوداً في صدارة المشهد السياسي العراقي باعتباره عرّاباً للعملية السياسية. بيده الحلّ والربط. وهو الذي في إمكانه أن يسمح ولا يسمح للحكومة ورئيسها بالعمل.
يُفهم من ذلك لماذا يشعر النظام السياسي بالقلق والإحراج لما يمكن أن يؤدّي إليه التنقيب في خفايا التنظيم من مفاجآت. قد تكون عبارة عن فضيحة من العيار الثقيل.
لكنّ نظام المحاصصة الطائفية لا يخشى أن تُضاف فضيحة جديدة إلى سجلّه الغاصّ بالفضائح. غير أنّ فضائح الفساد شيء وفضيحة تمهيد الطريق أمام داعش لتدمير جزء حيويّ وتاريخيّ من العراق لأسباب طائفية شيء آخر.
سبق للعراق أن نفّذ أحكام الإعدام بآلاف الشباب ممَّن اتّهموا بالانتماء إلى التنظيم الإرهابي. هناك عشرات الآلاف ينتظرون في السجون تنفيذ أحكام الإعدام بهم
كان اندحار داعش مناسبة للانتقام
سبق للعراق أن نفّذ أحكام الإعدام بآلاف الشباب ممَّن اتّهموا بالانتماء إلى التنظيم الإرهابي. هناك عشرات الآلاف ينتظرون في السجون تنفيذ أحكام الإعدام بهم. لم تثبت التهمة ضدّهم إلا بناء على تقارير ما يُسمّى بالمخبر السرّي. كما أنّ هناك “قانون 4 إرهاب” الذي يُتيح الاعتقال بناء على الشبهات.
فماذا يحدث لو طلبت اللجنة الأممية إعادة التحقيق مع المعتقلين وقراءة ملفّات المعدومين؟
كان ظهور داعش على الأراضي العراقية عام 2014 ثمّ اندحاره عام 2017 مناسبة لتحقيق هدفين طائفيَّين:
– الأوّل يكمن في تدمير المدن ذات الأغلبية السنّية، سواء على أيدي مجرمي داعش أو على أيدي مقاتلي القوّات المحرِّرة، رسمية كانت أو شبه رسمية كما تُوصف ميليشيات الحشد الشعبي.
– والثاني يتعلّق بالسماح باعتقال أكبر عدد ممكن من نساء وشباب تلك المدن بتهمة تقديم الدعم للتنظيم المدحور ونصرته والتغطية عليه وإمداده بسبل الحياة.
بالنتيجة تحقّق الهدفان تحت نظر القوات الأميركية التي لولاها لما تمّ تحرير الموصل والمدن الأخرى على الرغم من أنّ تلك القوّات كانت قد تعمّدت تأخير تدخّلها حتى يتمكّن التنظيم الإرهابي من إنجاز كامل أهدافه في التدمير، وبالأخصّ في ما يتعلّق بالآثار القديمة التي هي من نفائس الحضارة البشرية.
ما خفي من المؤامرة
لقد تواطأت أطراف كثيرة من أجل نجاح داعش في تنفيذ خطّته. وليست سوريا وإيران بريئتين من المساهمة في ذلك المخطّط الجهنّمي. ولو تفحّصنا جيّداً شبكة المتآمرين الذين دعموا داعش لاكتشفنا أنّ نوري المالكي هو آخر المتآمرين، وقد كان أشبه بالمظلوم حين أدانه تقرير اللجنة التي شكّلها مجلس النواب العراقي لبحث ملابسات ما جرى بعد هزيمة القوات العراقية وإعلان الدولة الإسلامية في الموصل. كان المالكي مجرّد أداة تنفيذية. غير أنّ ما جرى كان قد أشبع لديه غريزة الانتقام الطائفي.
يشعر النظام السياسي في العراق بالحرج. فعلى الرغم ممّا حدث من خراب سببه احتلال الموصل ومناطق غرب العراق، إلا أنّ ذلك النظام لا يزال مستمرّاً
لقد ضرب المالكي عصفورين بحجر واحد، وهو الذي كان يمنّي نفسه بولاية ثالثة:
– أوّلاً من خلال تنفيذ مخطّط فرضته قوى دولية وإقليمية يعرف أنّها تدعمه ومسؤولة عن بقائه.
– وثانياً من خلال تنفيذ حملة تطهير طائفي ما كان في إمكانه أن يقوم بها إلا من خلال حرب أهلية غير مضمونة النتائج.
سيظلّ لغز داعش تحت الأنقاض
كلّ تلك الحقائق كان من الممكن أن تكشف عنها لجنة التحقيق الأممي. ذلك في إمكانه أن يشكّل خرقاً للنظام لم يتمكّن محتجّو تشرين عام 2019 من تحقيقه. وهو ما يمكن أن يهدّد استقرار النظام الذي هو استقرار مؤقّت قد لا ترى فيه الميليشيات في لحظة تصادم مصالحها أمراً واجب الاحترام.
لكن هل تجرؤ الحكومة على عصيان إملاءات الأمم المتحدة لولا أنّها لم تكن مسنودة بقوّة دولية يمكنها أن تتصدّى للمنظمة الدولية؟
إقرأ أيضاً: العراق: نهب مليارات الدّولارات في أربعين الحسين
أعتقد أنّ الأمور صارت أكثر وضوحاً الآن. كلّ التنظيمات الإرهابية ومنها داعش لا يمكن النظر إليها إلا من خلال المنظار الأميركي. أمّا أيّة محاولة أخرى فإنّها ستبوء بالفشل.
ذلك يعني أنّ جزءاً عظيماً من لغز داعش سيظلّ مدفوناً تحت ركام المدينة القديمة في الموصل مع جثث الأبرياء التي صارت جزءاً من معمار المدينة الشهيدة.
لقد نجحت الحكومة العراقية بالاستعانة بالولايات المتحدة في أن تستقوي على لجنة أممية كانت المساءلة وتحقيق العدالة هدفها.
*كاتب عراقي