“يـــا تـــونــس الخــضــراء هــذا عــالم يــــثــــري بــــه الأمـّـــيّ والنـّــصّـــاب
أتــكــلّم الفــصــحــى أمــام عـشـيـرتـي وأعـــيـــد لكـــن مـــا هـــنـــاك جــواب
مـن أين أدخـل فـي القـصـيدة يا ترى والشـــمـــس فـــوق رؤوســـنـــا ســـرداب
اللاهــثــون عــلى هــوامــش عــمــرنــا ســيـّـان إن حــضــروا وإن هــمُ غـابـوا
إن جــاء كــافــور فــكــم مــن حــاكــم قـــهـــر الشــعــوب وتــاجــه قــبــقــاب”
نزار قباني
لا يوجد فساد إجرامي منظّم في أيّ مكان في العالم من دون جذور وتشعّبات وتواطؤ واسع النطاق على مختلف المستويات، في الأمن والسلطة والقضاء، والأهمّ في الشعب:
– أحد أهمّ الأمثلة كان إمبراطورية بابلو إسكوبار في كولومبيا. فالكثيرون من أبناء مدينته “مدلين” ما زالوا حتى اليوم يعتبرونه قدّيساً، وتحوّل ضريحه إلى معلم سياحي هناك.
– المثل الآخر هو المافيا الإيطالية والروسية.
– وغيرهما من المافيات الوطنية والدولية. كلّها متحالفة مع السلطة وجزء من الأمن وجزء من القضاء وجزء من الشعب، إلى أن تأتي لحظة السقوط بظلّ اختلال التوازنات التي جعلت من هذه المنظومات قابلة للاستمرار.
لكنّ إشكالات مافيات الحكم في العالم الثالث هي أنّ الدولة بأجمعها تصبح منظّمة مافيا بكامل أجهزتها، وأحياناً بمعظم مواطنيها. وغالباً ما تأخذ هذه المنظومة قسماً من مواطنيها رهائن تبتزّ العالم بهم، أكان بالغازات السامّة أو البراميل المتفجّرة أو الإرهاب أو الحماية منه أو التهجير… يكفي القول إنّ قوّة منظومات المافيا الرسمية تنبع من كلّ ما سبق، تضاف إليها حتماً في لبنان الرعاية والدرع الطائفيّتان. هذه المنظومة قادرة على الاستمرار حتى بعد انهيار الدولة المسخ التي تتربّع على ناصيتها لمجرّد أن بعض العالم يريد أن “يبعد عن الشر ويغنّي له” أو يجد فوائد من التعامل مع الأمر الواقع. فليس في الرأسمالية ملائكة ولا شياطين، بل مرابح تجعل من الشيطان صديقاً وحليفاً، أو خسائر تجعل من الملاك إرهابياً وأصوليّاً داعشيّاً!
لا يوجد فساد إجرامي منظّم في أيّ مكان في العالم من دون جذور وتشعّبات وتواطؤ واسع النطاق على مختلف المستويات، في الأمن والسلطة والقضاء، والأهمّ في الشعب
آل كابوني… وسقوطه عبر “محاسبه”
قصّة آل كابوني في شيكاغو مشهورة. وقصّة سقوطه مع منظومته الجبّارة أتت من خلال استهداف محاسبه واتّهامه بجرائم التهرّب الضريبي بعدما تمكّن الفساد المعمّم من حمايته من جرائم القتل والتهريب وإنشاء العصابات الإجرامية. هنا، أدّى سقوط المحاسب إلى سلسلة من الاعترافات أدخلت آل كابوني السجن الشهير قبالة ساحل سان فرنسيسكو المعروف بجزيرة “ألكاتراز”، حيث مات من دون أن تنجح محاولات تهريبه من قبل المنظومة المتحالفة معه.
أما وقد صدرت مذكّرة توقيف بحقّ أمين صندوق السلطة في لبنان، فالأمل هو أن يتمّ خنق المنظومة من خلال فضحها بالأرقام والتفاصيل حتى لا يكون أيّ من أركانها قادراً على تصنّع العفّة أو البراءة من دم الصدّيق.
الواضح أنّ نهب المال العامّ، الذي أدّى إلى نهب ودائع الناس، جرى بالتوافق الكامل بين أركان منظومة السلطة من جهة، وأمين صندوق المال العامّ الذي يبدو حتى الآن غير أمين.
هنا، لا أحاول سحب السكّين لأنّ البقرة وقعت، فأشارك في حفلة الذبح مع شركاء البقرة السابقين الذين يأملون أن تختفي، باختفاء البقرة، مشاركتهم في النهب ويهربوا، كالعادة، من المساءلة والمحاسبة لأنّهم “يسرقون حقّ طائفتهم وجماعتهم ومستضعفيهم” من الدولة، أي من المال العام، وهو بالمحصّلة مدّخرات اللبنانيين.
قصّة آل كابوني في شيكاغو مشهورة. وقصّة سقوطه مع منظومته الجبّارة أتت من خلال استهداف محاسبه واتّهامه بجرائم التهرّب الضريبي
الزعيم يعطي رعيّته من أموالهم
هذا يعني أنّ العطاءات والريعية التي منّ عليها عضو المنظومة على عشيرته هي من مالهم، أو مال جارهم، أو مال نظيرهم! هذا للأسف ما لم يفهمه حتى هذه اللحظة الكثيرون ممّن استفادوا من الريعية وما زالوا متمسّكين بعضو المنظومة خاصتهم لأنّه سيحقّق لهم استمرار الريعية إلى ما شاء الله.
هؤلاء لا يعلمون أنّ المال الذي كان يأتيهم من دون أن يعملوا بالمقابل، هو بالفعل مال يسرقونه من جارهم الذي أودع جنى عمره وتقاعده في عهدة أمين صندوق هو شريك لأعضاء المنظومة. ما لا يعلمونه أيضاً هو أنّ الصندوق فارغ ولم يعد هناك في العالم، القريب منه والبعيد، من هو جاهز لملء الصندوق كرامة لعيون منظومة تنهب نصف ما تمنحه لأتباعها المتحصّنين خلف طوائفهم وأشباه أحزابهم وتهافت زعاماتهم، وتحتفظ بالنصف الباقي.
في وقت ما ليس ببعيد، قلت لمسؤول، ظننته سيفهم ما أقول، ما يلي: “لا يمكن أن تكون أنت في موقع المسؤولية في حين أنّ سرقة المال العام، بأشكاله المختلفة، تتمّ تحت ناظرك. أنت تقول إنّك بريء من النهب مع أنّك مسؤول”. فأجاب: “هم يسرقون. أمّا أنا فمالي حلال!”. فقلت: “أنت مشارك في السرقة لمجرّد أنّك مسؤول. وإلّا فإنّك اشتريت السلطة بالتغاضي عن السارقين”. لم يعجبه بالطبع هذا الكلام، وأظنّ أنّني صرت بكلامي هذا في صفّ المنبوذين، غير القادرين على التأقلم مع ضروريّات السلطة.
يقال إنّ حافظ الأسد كان يستبعد كلّ من كان سجلّه نظيفاً من أيّ موقع حسّاس في النظام. فقد يمنعه ضميره من القيام بما يلزم من تجاوزات للقيم الأخلاقية للحفاظ على السلطة
صفقة تمنح رياض سلامة الحصانة؟
أمين الصندوق على حقّ بقوله “اسألوا السياسيين”. فهو بالنهاية موظّف في الدولة كأمين صندوق، فإن لم يكن شريكاً في النهب، فقد يكون رهينة أو مثل المسؤول الذي يشتري المنصب بالتغطية على المنظومة. وحقّنا نحن أن نسأل عن الهندسات المالية للبنوك الخاصة، وعن المال المهرّب وعن سوء الأمانة لأمين صندوق هو موظّف عند المواطنين الذين كانوا يدفعون له من مالهم معاشه ليكون أميناً وليس شريكاً مع المنظومة. أظنّ من هنا أنّ المخرج الوحيد، غير النفي الطوعي كخارج عن القانون، هو أن يقدم على صفقة تمنحه الحصانة يقول فيها ما قاله محاسب آل كابوني ليضعه في السجن.
لا شكّ أنّ توقيف من كان غير أمين على الصندوق أثار عاصفة من الجدل والآمال بأنّ هناك قضاء قد يتمكّن من المحاسبة، وربّما، بأعجوبة، استرداد جزء من حقوق الناس. لكن مجرّد فهم أنّ شركاءه ما زالوا يتحكّمون بالسلطة وبالقدرة على تعطيل مسار القضاء، فقد يحضر “البطل” إلى العدلية لحماية المنظومة أو سيكون للموقوف الكثير ليخسره إن هو باح بالأسرار؟
إقرأ أيضاً: تواطؤ الجماهير مع القائد الملهم!
يقال إنّ حافظ الأسد كان يستبعد كلّ من كان سجلّه نظيفاً من أيّ موقع حسّاس في النظام. فقد يمنعه ضميره من القيام بما يلزم من تجاوزات للقيم الأخلاقية للحفاظ على السلطة. وفي الوقت ذاته، فقد كان يحتفظ بملفّات إدانة من يعيّنهم لابتزازهم إن سوّلت لهم أنفسهم الخسيسة الانقلاب على أوامره وسلطته. وفي حالات عديدة، وبعدما زالت الحاجة إلى خدماتهم، أو أتى وقت التضحية بهم، انتحر بعض هؤلاء بعدّة رصاصات أطلقوها هُم على رؤوسهم!
لمتابعة الكاتب على X: