وصلت منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلة، حيث يُفترض بدول كثيرة أن تشهد تغييرات، إمّا على مستوى السلطة أو على مستوى السياسات. بعض الدول أو الأنظمة أيقنت ذلك وسلكت المسار. دول أخرى لا تزال تمانع أو تعارض أو تطيل أمدها في مواصلة الحرب والقتال. لكنّ جملة ملفّات وأحداث قد وقعت لا بدّ من التوقّف عندها في محاولة لاستشراف المرحلة المقبلة وما ستحمله من دلالات ومؤشّرات. وهنا يجدر النظر إلى مواقف الدول الإقليمية، وبعدها الدول الصغيرة التي تتأثّر بالمجريات الأكبر.
تتنوّع مشاريع القوى الإقليمية في المنطقة. ثلاثة مشاريع ذات نيّة توسّعية، ومشروع واحد يتّصل بالحفاظ على الدول الوطنية بحدودها القائمة. وهو المشروع العربي الذي تتقدّم به المملكة العربية السعودية. أمّا المشاريع الأخرى فهنا جولة سريعة عليها:
1- أوّلها، المشروع الإسرائيلي الذي ينطوي على حسابات متعدّدة، أبرزها توسيع حدود الكيان، وجعل إسرائيل متفوّقة على غيرها من الدول، وهو ما تفعله الحكومة اليمينية برئاسة بنيامين نتنياهو من خلال مساعي تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة والضفة الغربية. بالإضافة إلى تنفيذ عمليات أمنيّة وعسكرية خارج فلسطين، ولا سيما في إيران ولبنان وسوريا واليمن، لأجل إثبات نفسها القوّة الكبرى.
وصلت منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلة، حيث يُفترض بدول كثيرة أن تشهد تغييرات، إمّا على مستوى السلطة أو على مستوى السياسات
2- ثانيها، هو مشروع إيران ذو الأهداف التوسّعية من خلال ضرب الدول الوطنية، لأجل تحقيق النفوذ وتوسيعه وتثبيته وجعل نفسها متقدّمة على غيرها من القوى الأخرى، إلى جانب التفاوض مع أميركا لانتزاع منها اعترافاً بعودتها “شرطيّاً للمنطقة”.
3- ثالثها، المشروع التركي الذي تجسّد بعد ثورات الربيع العربي في عام 2011 عندما برز مشروعاً توسّعياً في محاولة لبسط النفوذ في مصر من خلال الإخوان المسلمين، وصولاً إلى التدخّل العسكري في شمال العراق، وشمال سوريا، وشقّ البحر المتوسط باتجاه ليبيا.
إعادة النّظر في 3 مشاريع
هذه المشاريع الثلاثة بحاجة إلى إعادة نظر من قبل أصحابها، وهو ما يجري فعليّاً:
– تركيا قرأت باكراً الطوالع الإقليمية والدولية، وقبل اندلاع الحرب على غزة كانت قد اتّجهت نحو ترتيب العلاقات مع إسرائيل، المملكة العربية السعودية، دولة الإمارات العربية المتحدة ومصر.
– إيران تأخّرت في قراءة الطالع وانتظرت لما بعد عملية طوفان الأقصى، التي راهنت عليها لتغيير وقائع استراتيجية في المنطقة وضرب الاتفاقات الاستراتيجية في سياق إعادة إنتاج نظام إقليمي جديد. أيقنت إيران بعد طول الحرب الإسرائيلية والاستعداد لتوسيعها أن لا قدرة لها على المواجهة فكان الخيار مراجعة السياسات. وذلك تبدّى من خلال مجموعة مؤشّرات:
1- الانتخابات الإيرانية أفرزت فوزاً لمرشّح الإصلاحيين مسعود بزشكيان. وهو يقول إنّ الجيش الإيراني لحماية إيران لا للقيام بمشاريع أخرى. ويسعى إلى إعادة دمج إيران بالنظام الدولي بدلاً من ادّعاء محاربته أو مواجهته أو السعي إلى إسقاطه.
2- إعلان مرشد الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن السماح بالتفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية.
3- تأجيل الردّ الإيراني على ضرب طهران واغتيال إسماعيل هنية.
4- إعلان خامنئي عن التراجع التكتيكي أمام الأعداء عسكرياً أو سياسياً.
5- اتصالات إيرانية بقوى دولية وإقليمية في محاولة للوصول إلى وقف إطلاق النار في غزة وعدم توسّع الحرب، بالإضافة إلى التنسيق مع الدول العربية، ولا سيما المملكة العربية السعودية، في سبيل عقد قمّة إسلامية.
إيران تأخّرت في قراءة الطالع وانتظرت لما بعد عملية طوفان الأقصى، التي راهنت عليها لتغيير وقائع استراتيجية في المنطقة وضرب الاتفاقات الاستراتيجية
– أمّا إسرائيل فلا يبدو أنّ قيادتها الحالية في وارد إعادة النظر بمنطق الحرب وتهجير الفلسطينيين. ويتصرّف بنيامين نتنياهو باعتباره “وليّ دم” 7 أكتوبر (تشرين الأوّل 2023)، وهدفه هزيمة المحور الإيراني كلّه قبل أن يعيد جنوده إلى ثكناتهم.
أين المشروع العربيّ من هذا المشهد؟
أمام كلّ هذه المتغيّرات بقي المشروع العربي الذي تمثّله دول الاعتدال بقيادة السعودية على حاله، فيما كلّ الدول أو القوى الأخرى تسعى إلى الالتحاق به:
– إمّا من خلال تعزيز تركيا لعلاقاتها الخليجية والطموح إلى المزيد من الشراكة والاستثمارات.
– وإمّا من خلال تصريح الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عن الاهتمام بتعزيز الشراكات الاقتصادية وتعزيز الاستثمارات مع الدول العربية، ولا سيما الخليجية.
تزامناً تستمرّ الاتّصالات السياسية في سبيل عقد قمّة إسلامية في المملكة العربية السعودية ستكون الثالثة منذ اندلاع حرب غزة، لكن هذه المرّة بناء على تنسيق سعودي، مصري، تركي، إيراني وقطري، والهدف منها:
– الخروج بموقف إسلامي عربي جامع حول تثبيت حلّ الدولتين.
– تطويق إسرائيل سياسياً ودبلوماسياً ومنعها من استكمال حربها.
– تشكيل قوّة ضغط على المجتمع الدولي، ولا سيما الأميركيين، للاعتراف بحلّ الدولتين والضغط على إسرائيل لوقف الحرب.
– العمل على تقديم مشروع سياسي متكامل يكرّس الاستقرار في المنطقة ككلّ.
بقي المشروع العربي الذي تمثّله دول الاعتدال بقيادة السعودية على حاله، فيما كلّ الدول أو القوى الأخرى تسعى إلى الالتحاق به
السّعوديّة على خطّ الحلّ السّياسيّ في سوريا
عمليّاً، كلّ هذه العناوين كانت تعمل عليها الدبلوماسية السعودية قبل أشهر من عملية طوفان الأقصى، وتسارعت بعدها. في الاجتماع الأخير بين وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، قدّمت السعودية رؤية شاملة لمعالجة الأزمات في المنطقة ووقف الحرب وضمان حقّ الفلسطينيين بدولة مستقلّة. لا تنفصل هذه الرؤية السعودية عن الاستراتيجية التي كانت معتمدة تجاه لبنان، سوريا، العراق واليمن.
– سوريا عملت على تحييد نفسها عن معادلة وحدة الساحات، وتنخرط في حوار مع روسيا والدول العربية حول ترتيب وضعها لليوم التالي، وفي هذا السياق تشير المعلومات إلى أنّ السعودية بصدد تنظيم مؤتمر جامع للمعارضة السورية والنظام السوري بالتنسيق مع روسيا، لإعادة تفعيل عمل اللجنة الدستورية والاتفاق على حلّ سياسي شامل يتضمّن تشكيل حكومة بصلاحيات معزّزة تتمثّل فيها المعارضة كما النظام.
– العراق سلك منهجاً مختلفاً عمّا كان عليه الوضع في الأشهر الأولى للحرب على غزة، وخرج من وحدة الساحات أيضاً وصولاً إلى تصريحات وزيرَي الدفاع والخارجية، وذلك بناء على تقاطع أميركي إيراني، خصوصاً أنّ طهران اختارت طريق التهدئة وعدم تعزيز الصراع.
– اليمن تمّ تحييده بفعل مجموعة عوامل، بينها الضغط الأميركي البريطاني، التدخّل الإيراني، وضرب الإسرائيليين لميناء الحديدة، بالإضافة إلى استمرار التفاوض بشأن الحلّ السياسي هناك.
تلجأ السعودية إلى تقديم رؤية سياسية تشتمل على احتواء التراجع الإيراني. إذ لا بدّ من مدّ اليد لها، في مثل هذا الظرف
وحدَه لبنان يُعانِد
– وحدَه لبنان لا يزال يُعاند ضمن معادلة “وحدة الساحات” بفعل اندفاعة الحزب وموقفه، لكن بطريقة مدروسة جداً لا تجعل الحزب يصعّد في سبيل الاتّجاه نحو الحرب الكبرى في المنطقة. وفي هذا الإطار جاء كلام الأمين العامّ للحزب حول سحب الصواريخ الدقيقة والبالستية من جنوب لبنان، بالإضافة إلى تقديم تنازلات مطلوبة بالمعنى السياسي والحدودي، لكنّها تنتظر وقف الحرب على غزة ليتمّ تنفيذها.
بانتظار أن تحين اللحظة، وربطاً بالتراجع الإيراني، تحرّكت الدول الخمس في “اللجنة الخماسية” المعنيّة بلبنان على قاعدة تحضير الأرضية للمرحلة المقبلة ووفق مبدأ الحاجة إلى تغيير فعليّ وأساسيّ في المسارات السياسية والمالية. وهو ما يعني العودة إلى الثوابت السعودية التي أقرّت في بيان نيويورك الثلاثي الشهير، وأقرّت مجدّداً ببيان اللجنة الخماسية التي اجتمعت في العاصمة القطرية الدوحة.
عمليّاً، تستعدّ السعودية لتقديم رؤية شاملة لتطوّرات الوضع في المنطقة وسبل حلّ الأزمات ومعالجة المشاكل، وذلك كلّه يبدأ من مسار وقف الحرب على غزة. في هذا الإطار تأتي القمّة الإسلامية الاستثنائية التقاطاً للحظة استثنائية أيضاً على مشارف الانتخابات الأميركية، وبعد إعلان إيران التراجع التكتيكي.
السّعوديّة تمدّ اليد لإيران
هنا تلجأ السعودية إلى تقديم رؤية سياسية تشتمل على احتواء التراجع الإيراني. إذ لا بدّ من مدّ اليد لها، في مثل هذا الظرف، بالإضافة إلى تكوين موقف عربي إسلامي جامع في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية. وهنا يجدر استذكار ما قاله الشهيد رفيق الحريري عن حادثة تاريخية بين إيران والسعودية في حوار مع الصحافي غسان شربل: “كنّا مع الملك فهد حين أُبلغ بالحادث (إسقاط طيّار سعودي 3 طائرات إيرانية اخترقت الأجواء السعودية). انتظر قليلاً ثمّ أمر بأن يتمّ الإعلان عن إسقاط طائرة واحدة. سألناه عن السبب فأجاب: إذا أعلنّا عن إصابة ثلاث طائرات نكون كمن يهين الجيش الإيراني. نحن لا نريد مواجهة مع إيران أو مشكلة معها. إذا أهنت الجيش الإيراني علانية يشعر بأنّ من واجبه أن يردّ. الجيش الإيراني يعرف ماذا حصل ولا ضرورة لإخراج الحادث كلّه إلى العلن”.
إقرأ أيضاً: نتنياهو يريد ضرب إيران… وخامنئي “يتراجع تكتيكيّاً”
أضاف: “كان الملك فهد يقول لنا إنّ إيران دولة موجودة منذ آلاف السنين، ونحن أمّة موجودة منذ آلاف السنين. نحن لا نستطيع إلغاء إيران، ولا هي تستطيع إلغاءنا. لا بدّ من وقت تهدأ فيه النفوس، ونجلس إلى طاولة لحلّ مشاكلنا برويّة”. في ذلك رهان على انتهاج إيران لسياسة جديدة بدأت ملامحها تظهر منذ اتفاق بكين، وتتجلّى أكثر خلال محاولات طهران لتجنّب الحرب الكبرى.
منطلق الحلّ ومنتهاه بالنسبة إلى السعودية يبدآن في فلسطين، من خلال حفظ القضية، وإعلان الدولة الفلسطينية. وذلك لا بدّ له أن يمرّ أيضاً بتغيير سياسي ينتج قيادة إسرائيلية جديدة وقيادة فلسطينية جديدة من خلال إعادة تشكيل السلطة.