الظاهر هو الاستماتة من سائر الأطراف في الوصول إلى وقف النار في غزة. وآخر الاستماتات إعلان المرشد الإيراني علي خامنئي أنّه “لا ضير في التراجع التكتيكي أمام العدوّ، عسكرياً وسياسياً”. لكنّ الواقع أنّ ما بعد غزة صار هو الأهمّ لدى نتنياهو الذي لا يقبل فتح أفق على فلسطين. وفي حين يريد نتنياهو ضرب الحزب وحتى إيران، يعود الأميركيون إلى سياسات الاستيعاب تجاه إيران، وإلى التهدئة في جنوب لبنان خوفاً من خرابه. قد تحصل الهدنة، لكنّ المشكلات باقية، والخاسرون الفلسطينيون في كلّ مكان، والسكّان في جنوب لبنان.
ما عادت غزة هي الجبهة الرئيسية أو ما عادت المفاوضات حولها متعلّقةً بوقف إطلاق النار، بل بما بعدها. أمّا الاهتمامات فقد انتقلت إلى جبهة جنوب لبنان أو “جبهة الشمال” بالتعبير الإسرائيلي، وجبهة اليمن في الاهتمامات الأميركية والبريطانية والأوروبية. والفرق أنّ جبهة غزة متعلّقة بالدرجة الأولى بالملفّ الفلسطيني، أمّا الجبهتان الأُخريان فتتعلّقان بإيران.
الواقع أنّ ما بعد غزة صار هو الأهمّ لدى نتنياهو الذي لا يقبل فتح أفق على فلسطين
كاد نتنياهو باستثاراته المتوالية يدفع إيران لتغيير سياساتها في الاشتباك بالواسطة. عادت إيران للتأنّي وتسلّم الأميركيون زمام التفاوض معها. نتنياهو مدفوعاً بالتقدّم في الحرب على غزة أحبّ أن يحقّق النجاحات نفسها في الجبهة الشمالية، ثمّ امتدّت مطامحه لدفع إيران للدخول في معركةٍ مباشرة. والإخماد في الجبهتين غرَّهُ في أن يحاول الوصول إلى ضرب أصل الداء، فيبقى في رئاسة الوزارة ويصبح زعيماً تاريخياً لإسرائيل بعد بن غوريون. والذي أحبط هذه النوايا العودة الإيرانية للتباطؤ، وإيثار الأميركيين مثلما كان عليه الحال دائماً لسياسات الاحتواء.
إيران بعد حماس والحزب والحوثيّ
ما ردّت إيران على اغتيال إسماعيل هنية على أرضها، وردّ الحزب على اغتيال قائده العسكري كان محدوداً. لكنّ الأميركيين فهموا الأمرين أو الأمور بخلاف فهم نتنياهو وليس الجيش الإسرائيلي. نتنياهو طمح إلى إخماد الجبهات كلّها من خلال ضرب إيران بعد حماس والحزب والحوثي. وكان تقدير العسكريين الإسرائيليين مختلفاً. فحتى غزة ليس من المأمول، أو ليس من المفيد، القضاء على حماس تماماً ما دام أبو مازن لا يستطيع أن يكون بديلاً، وكذلك إسرائيل لا تريده. وإذا كان القضاء على حماس بهذه الصعوبة بعد أحد عشر شهراً من القتال، فكيف يمكن الأمل بالقضاء على خطر الحزب والحوثيين.. وإيران؟ وكم يستغرق ذلك؟
الأميركيون الذين بذلوا جهوداً كبيرةً ويبذلون على سائر الجبهات حتى العراقية والسورية، ذهبوا للتفاوض بالواسطة وبالمباشر مع إيران
الأميركيون الذين بذلوا جهوداً كبيرةً ويبذلون على سائر الجبهات حتى العراقية والسورية، ذهبوا للتفاوض بالواسطة وبالمباشر مع إيران. وانفتحت في هذا الصدد سائر الملفّات حتى ملفّ التفاوض على النووي. فمسعود بزشكيان، الرئيس الجديد، يريد انفتاحاً بأيّ ثمن. والأميركيون لا يريدون المزيد من الحروب أثناء معركة رئاستهم. ثمّ لماذا يريحون الخصوم والحلفاء بالخلاص مرّة واحدة من الميليشيات ومن إيران؟!
لذلك هم يقولون كلّ يومٍ تقريباً وعلى الجبهات الثلاث (الحزب والحوثي وإيران): لا بدّ من وقف الحرب الشامل على كلّ الجبهات، والعودة للملفّ النووي إن أمكن. وإذا تعاظمت الآمال فلا بأس من التفكير بالسلم الدائم وبالدولة الفلسطينية!
إسرائيل تخشى “اليوم التّالي”… أميركا تخطّط له
الفرق بين إسرائيل والأميركيين أنّ القيادة السياسية الإسرائيلية في الملفّ الفلسطيني تخشى ما بعد وقف النار. في حين يرى في ذلك الأميركيون اتّساعاً لإمكانيات التفكير في المستقبل. إسرائيل ولكي تتحوّل عن خططها تريد ضمانات لما بعد الجلاء عن محورَي فيلادلفي (على حدود مصر) ونتساريم (يقطع غزّة من وسطها، من الغلاف إلى البحر)، ولما بعد التهدئة في الجنوب، وربّما لما بعد هدوء الحوثي المحتمل. والأميركيون في خططهم الاستراتيجية الواسعة يفكّرون في مستقبل لبنان، ومستقبل العلاقة مع الحلفاء العرب الذين يريدون هدوءاً في غزة. لكنّهم يرون أيضاً ضرورة البحث في إمكانيات إرضاء الشركاء العرب لكي يُقبلوا على الاهتمام بمستقبل فلسطين وإعادة الإعمار، وإمكان الحيلولة دون المزيد من الدمار في لبنان.
الفرق بين إسرائيل والأميركيين أنّ القيادة السياسية الإسرائيلية في الملفّ الفلسطيني تخشى ما بعد وقف النار. في حين يرى في ذلك الأميركيون اتّساعاً لإمكانيات التفكير في المستقبل
أمّا الإسرائيليون فلا يريدون من العرب غير السلام معهم بدون شروط. ولا مانع لديهم في مساعدة العرب في الإعمار، إنّما بدون أفق سياسي. وقد كان نجاح الأميركيين مع الإسرائيليين محدوداً حتى الآن. إذ لم تتوقّف حرب غزة، ولا هدأت الضفة الغربية. ومن جهةٍ أُخرى ما استطاع الأميركيون إقناع الإسرائيليين إلّا بإيقاف هجماتهم على الحوثيين.
الأميركيون يعرضون حلّاً حتى للحدود البرّية مع لبنان، وليس من المعروف ما هو رأي الإسرائيليين الذين يريدون إخراج الحزب من جنوب الليطاني أو ضرب الحزب ولبنان ضربات قاضية وإذا أمكن إيران أيضاً.
هل افترقت الأهداف؟
في الملفّ الفلسطيني افترقت الأهداف، وهذا هو سبب تردّد نتنياهو الشديد في وقف النار، والتمسّك بفيلادلفي ونتساريم مسوِّغاً لاستمرار الحرب.
الأمر مختلف بعض الشيء في ملفّ الحزب. فالخلاف ليس مع الأميركيين فقط، بل ومع الجيش الإسرائيلي الذي على الرغم من تفوّقه لا يريد المزيد من الاشتباك. ويخشى اجتذاب إيران. والأميركيون يخشون خراب لبنان.
بالنسبة للحوثي فقد كفَّ هو وتجاهلت إسرائيل، وأميركا هي الكفيل.
إقرأ أيضاً: ماذا يريد نتنياهو من الضّفّة الغربيّة؟
الأمر بعيدٌ مع إيران لأنّ الكلّ مقتنع أنّه ليس بإمكان الجيش الإسرائيلي ضرب إيران ضربات مؤثّرة بدون دعم الولايات المتحدة.
هل الاختلاف يؤدّي إلى سوء العلاقة؟
كلا الطرفين لا يريد ذلك، والإسرائيلي يخشى وصول كامالا هاريس للبيت الأبيض.
قد تتوقّف الاشتباكات، لكن راحت على الفلسطينيين وأهل جنوب لبنان. والباقي على حاله من المشاكل معلّقة.
لمتابعة الكاتب على X: