بعيداً عن الشعبوية والشماتة، ما يجب تأكيده في قرار مدّعي عام التمييز القاضي جمال الحجار بتوقيف حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، أنّ أمامنا قصّة رجلين شجاعين دخلت تاريخ لبنان وستتناقلها ألسنة اللبنانيين لسنوات وأجيال.
ليس قراراً عاديّاً أن يعمد قاضٍ يُطلق عليه عرفاً “مدّعي عام الجمهورية” إلى اتّخاذ قرار بتوقيف شخصية بحجم حاكم مصرف لبنان، وهو منصب من ضمن ثلاثة مناصب في الجمهورية اللبنانية لطالما اعتبرت فوق المحاكمة والمحاسبة والمسألة، أي رئاسة الجمهورية، وقيادة الجيش، وحاكمية مصرف لبنان.
شجاعة من القاضي جمال الحجار في زمن انهيار مؤسّسات الدولة والفراغ الرئاسي والانقسام العمودي حول حرب وجد لبنان نفسه فيها دون علم أو استشارة، أن يتّخذ بدوره قراراً دون استشارة بتوقيف رجل بحجم رياض سلامة.
من باب الإنصاف، شجاعة كبيرة من شخص كرياض سلامة يحظى بمروحة واسعة من الحمايات، ويمتلك في خزانته كمّاً كبيراً من الأسرار، يفوق ما تحتويه خزانة المصرف المركزي من سبائك الذهب، أن يتوجّه بصمت، ودون إشعار أحد، ومن دون اصطحاب محاميه إلى قصر العدل، بناء على استدعاء المدّعي العامّ للاستماع إليه، واضعاً نفسه تحت سقف القانون كما يفترض أن يفعل كلّ المسؤولين والناس.
لا يحقّ لنا نحن الناس مهما كانت مواقفنا السياسية والإعلامية والاجتماعية أن نتحوّل إلى قضاة. من حقّنا أن نشتكي وأن نرفع الصوت عالياً، وأن نفرح لتوقيف فلان أو الإفراج عن علّان، لكنّ الإدانة القضائية من حقّ القضاء، كما من حقّ كلّ متّهم أن يدافع عن نفسه.
دخل سلامة قصر العدل ولسان حاله يقول: “أثق بأمرين. الأوّل قانونية ما فعلت، والثاني نزاهة القاضي الحجار”
قوّة الحجّار بشخصه
لا يسعى مدّعي عام التمييز القاضي جمال الحجار إلى كتابة التاريخ، ولا إلى صناعة المستقبل. هو يكتب الحاضر بدقّة ومصداقية كي يحافظ على الماضي الذي صنعه.
الرجل صوره الشخصية نادرة كما تصريحاته. وما يمكن رصده عنه أنّ التاريخ ما كان يوماً يستهويه.
تفصل جمال الحجّار عن لحظة التقاعد في القضاء سنة ونصف سنة، أي ثمانية عشر شهراً، ويترقّبها بهدوء كلّما أطلّ على حديقة منزله، أو نظر إلى مكتبته دون طموح سياسي أو قضائي. لطالما تجنّب المناسبات العامّة والجلسات الاجتماعية، ولن يتورّط بها في آخر مساراته وطريقه التي سار عليها منذ دخوله القضاء.
مواصفات الحجّار الشخصية والاجتماعية تجعله غير قابل للضغط ولا الارتهان أو الابتزاز. أعزب لدرجة العنوسة. يملك حساباً مصرفياً واحداً هو الحساب المخصّص لراتبه القضائي. لم يجرِ بتاريخه تحويلاً مصرفياً واحداً ليس من زاوية الحرص، بل لأنّه لا حاجة له إلى ذلك، فنشاطاته والتزاماته ضيّقة إلى أبعد الحدود.
سلامة قوّته بأوراقه
ذهب رياض سلامة إلى قصر العدل يوم الثلاثاء الفائت طوعاً. نزل من منزله الذي لا يبعد كثيراً عن قصر العدل برفقة سائقه فقط دون حراسة. لم يطلب معونة أحد من السياسيين والمرجعيات كما نفعل جميعنا في مثل هذا الموقف، حتى لو تمّ استدعاؤنا إلى مخفر من المخافر. كما طلب من محاميه عدم مرافقته. فهو استُدعي للاستماع إليه كشاهد وليس كمشتبه به، وهي مسألة قانونية يُترك للمحامين التعامل معها أمام القضاء..!
دخل سلامة قصر العدل ولسان حاله يقول: “أثق بأمرين. الأوّل قانونية ما فعلت، والثاني نزاهة القاضي الحجار”.
كان رياض سلامة يباشر حياته قبل الاستدعاء كما يفعل كلّ الناس. يداوم صباحاً في مكتب خاصّ به افتتحه بعد الخروج من مصرف لبنان، ويتنقّل ويشارك قليلاً في المناسبات الاجتماعية، كما يتنقّل ويفعل كلّ الناس.
لا يسعى مدّعي عام التمييز القاضي جمال الحجار إلى كتابة التاريخ، ولا إلى صناعة المستقبل. هو يكتب الحاضر بدقّة ومصداقية كي يحافظ على الماضي الذي صنعه
أحببنا رياض سلامة أم كرهناه، إنّها شجاعة منه يفتقر إليها الكثير منّا أن يذهب إلى التحقيق عند المدّعي العام، ليكون بإرادته، بقصده أو دون قصده، مشاركاً في إعادة الهيبة للقضاء. هو رجل مؤسّسات وإن كان في موقع الاتّهام والادّعاء.
هذا الكلام لا حرج فيه، فما عرفت شخصياً الرجل يوماً عندما كان في موقع القرار. لكن اللهم لا شماتة..
براءة رياض سلامة أو إدانته ليست من اختصاصنا معشر المواطنين والسياسيين وصنّاع الكلام. هو اختصاص القضاء الذي علينا تقبّله بكلّ قراراته وسياقاته لأنّه ليس خاضعاً للخيار والاختيار كما نتعامل في المطعم مع لائحة الطعام.
إقرأ أيضاً: أسامة سعد.. حارس صيدا وعروبتها
هذا ما تحقّق
شجاعة الرجلين ليست فقط في الشكل، بل وفي المضمون حيث حقّق القاضي الحجار سلسلة من النقاط:
1- ألغى من ذاكرة اللبنانيين صورة ثقيلة الدم اسمها “القاضية غادة عون”.
2- أجرى عملية إنعاش إنقاذية لهيبة القضاء.
3- أعطى أملاً للبنان أنّ مؤسّسات الدولة فقط هي الرهان.
قد يُدان رياض سلامة. لكن هل كان رياض سلامة وحيداً يعبث في خزائن المال العائدة لوطن اسمه لبنان؟!
لمتابعة الكاتب على X: