اشتعال الضّفّة.. ووصيّة ترامب بـ”توسيع إسرائيل”

مدة القراءة 8 د

خلف النيران المشتعلة في قطاع غزة تعيش الضفة الغربية كابوساً ورعباً تحوّل في الأيام الأخيرة حرباً مفتوحة وجبهة قتال لا تهدأ، هي الأشدّ والأعنف التي تشهدها مدنها والقرى ومخيّماتها منذ نحو عقدين. الأسوأ هو توجّه نتانياهو إلى تنفيذ وصية دونالد ترامب: “حان الوقت لتوسيع إسرائيل”. وهي جملة تسمع أصداؤها في الضفة الغربية وفي الأردون وفي مصر ودول أخرى… 

 

 

ما كادت إسرائيل تصحو من صدمة عملية “طوفان الأقصى”، حتى وصفتها بأنّها “11 أيلول” جديدة، وعمدت إلى استغلالها أبشع استغلال بتوظيف التضامن الغربي معها والدعم الأميركي اللامحدود لشنّ عدوان ساحق على القطاع وأهله لتصفية مقاومته وشلّ نبض الحياة فيه. بل ذهبت إلى أبعد بتحويلها فرصة استثنائية لخنق حلّ الدولتين والقضاء على أيّ أمل بإقامة دولة فلسطينية على التراب الفلسطيني تمهيداً لرسم نظام إقليمي جديد على مقاسها، على غرار ما فعلت الولايات المتحدة بعد 11 أيلول الأميركي الذي جعلته واشنطن ذريعة لتجديد هيمنتها الدولية والتحكّم بمفاصل العالم وفرض قوانينها على البشرية تحت شعار مكافحة الإرهاب.

خلف النيران المشتعلة في قطاع غزة تعيش الضفة الغربية كابوساً ورعباً تحوّل في الأيام الأخيرة حرباً مفتوحة وجبهة قتال لا تهدأ،

سحق الضّفّة الغربيّة؟

سحق المقاومة في غزة وتدمير القطاع وشلّ الحياة فيه تكسر ظهر الفلسطينيين وتضعفهم وتضيف إلى سلسلة نكباتهم المتواصلة نكبة كبرى جديدة. لكنّ ذلك إن حصل لا ينهي القضية ولا يسقط حقّ الفلسطينيين بدولة على أرضهم. فالعمود الفقري لفلسطين والقضيّة هي الضفة الغربية، الأخت الكبرى لغزة. وعندما تُسحق الضفة تُسحق القضيّة وتُسحق فلسطين.

لا توجد قوّة في العالم قادرة على بثّ الفزع في قلوب الإسرائيليين مثل غضب الضفة وثورتها وتمرّدها. لجأت إسرائيل إلى كلّ فنون التعذيب والعزل والحصار والتطويق والاستيطان، واقترفت كلّ ما استطاعت من انتهاكات لكسرها وهضمها وابتلاعها وتخويف قاطنيها، لكنّها تظلّ التهديد الوجودي الأكبر لها. لا وجود لفلسطين بلا الضفة الغربية. في المقابل لا ترى السرديّة الإسرائيلية وجوداً للكيان ولا قيامة له بلا “يهودا والسامرة”، وهو الاسم الإسرائيلي لـ”الضفة الغربية”.

لم تكن مخيّمات الضفّة شريكاً في تنفيذ “طوفان الأقصى”، لكنّ إسرائيل عاقبتها باغتيال أكثر من 670 من أبنائها، بينهم 150 ولداً، واعتقلت أكثر من 10 آلاف شابّ وشابّة، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول 2023).

سحق المقاومة في غزة وتدمير القطاع وشلّ الحياة فيه تكسر ظهر الفلسطينيين وتضعفهم وتضيف إلى سلسلة نكباتهم المتواصلة نكبة كبرى جديدة

تجتاح قوّات الجيش والشرطة والمستعربين والمستوطنين بالطائرات والدبّابات والجرّافات منذ أيّام محافظات جنين وطولكرم وطوباس في شمال الضفة. تحاصر المستشفيات، تجرف الطرق، وتدمّر البنى التحتية، وتعتقل وتقتل كلّ كائن يتحرّك.

ترحيل سكّان الضّفّة

وزير الخارجية يسرائيل كاتس كان شديد الوضوح حين قال: “يجب التعامل مع التهديد في الضفة الغربية تماماً كما نتعامل مع البنية التحتية في غزة”، وإنّه يجب حصول “إجلاء مؤقّت للسكّان”، أي ترحيلهم.

حرب الضفة هذه ليست هروباً إسرائيلياً من حرب غزة، بل هي استكمال لها. فالعدوان على غزّة مستمرّ، وسيستمرّ ما دام بنيامين نتنياهو يعرقل أيّ صيغة لوقف النار أو صفقة تبادل. لا يزال يرفض أيّ انسحاب ولو شكليّاً من محور فيلادلفي. ويصرّ على إبقاء القبضة الإسرائيلية على معبر رفح وعدم التخلّي عن محور نتساريم كذلك.

وهو، بإطالته أمد الحرب، يضرب عصافير عدّة بحجر واحد. وبقاؤه على رأس الحكومة صار آخر أهدافه بعدما حظي بشبكة أمان برلمانية مريحة وتلاقت طموحاته الحربية مع طموحات عموم الإسرائيليين الراغبين بتوسيع الحرب و”تحقيق النصر الكامل”.

لا شكّ في أنّ الهجوم على الضفة الغربية يرضي اليمين المتشدّد في حكومته، ولا سيما الثنائي إيتامار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، اللذين تزداد شعبيّتهما بين المستوطنين والمتطرّفين المتشوّقين لابتلاع الضفة والعودة إلى “الإدارة المدنية” وإنجاز تهويد القدس.

العدوان على غزّة مستمرّ، وسيستمرّ ما دام بنيامين نتنياهو يعرقل أيّ صيغة لوقف النار أو صفقة تبادل

نتنياهو ينتظر ترامب

هدفه الآخر هو انتظار نتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية والرهان على عودة المرشّح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. والهدف الأهمّ بالنسبة إليه هو إنجاز تصفية القضية والقضاء المبرم على حلّ الدولتين عبر جعل الضفة الغربية قطعة جبن سويسرية منخورة بالثقوب والأنفاق الإسرائيلية.

الانقسام الداخلي الفلسطيني وعجز السلطة الفلسطينية والتواطؤ الغربي والصمت العربي المريب والدعم الأميركي الهائل، عوامل تشجّع نتنياهو على التعامل مع الضفة ليس كردّ فعل على تداعيات معركة غزة، بل لتنفيذ الاستراتيجية الإسرائيلية بابتلاع الجزء الأخير الباقي من فلسطين وتمهيد الأرضيّة لتهجير أهله وإخلائه من سكّانه.

المبارزة الصاروخية الأخيرة على الجبهة اللبنانية كرّست حقيقة أنّ محور الممانعة، ولا سيما زعيمته إيران، لا يحبّذان الانجرار إلى حرب إقليمية مفتوحة ويفضّلان الاكتفاء بجبهات المساندة لغزّة.

يبدو أنّ نتنياهو، الذي ظهر أنّه الراغب الوحيد في حرب كهذه، هو أيضاً فضّل التغاضي عن الحرب الكبرى، واستغلال نأي “الممانعين” بأنفسهم عن الحرب الشاملة لمواصلة حروب القضم في الداخل الفلسطيني، والانتقال من غزة إلى الضفّة لإكمال مهمّته الاستراتيجية، وترك جبهات المساندة على حالها.

أمّا واشنطن فلم ترَ في ما يجري في الضفّة سوى “مشاكل مثيرة للقلق”. اكتفى الناطق باسم مجلس الأمن القومي الأميركي جون كيربي بالقول إنّ بلاده “على علم بما يجري وتتواصل مع الإسرائيليين”.

في حين قال مدير المعهد الديمقراطي الوطني للشؤون الدولية ديفيد داغرتي إنّه لا يتوقّع الكثير من الولايات المتحدة. وأضاف أنّ نتنياهو منح نفسه ذريعة للقيام بكلّ شيء بعد السابع من أكتوبر، وأنّ ما يجري من فوضى ليس مفاجئاً وما تقوم به إسرائيل في الضفة سيعتبر جزءاً من الدفاع عن النفس من وجهة نظر إدارة جو بايدن.

تتذرّع الحكومة الإسرائيلية بوجود “مخطّط إيراني” لإشعال الضفة الغربية عبر تحريض جماعات فلسطينية مسلّحة ومدّها بالسلاح

هل هناك فعلاً “مخطّط إيرانيّ”؟

تتذرّع الحكومة الإسرائيلية بوجود “مخطّط إيراني” لإشعال الضفة الغربية عبر تحريض جماعات فلسطينية مسلّحة ومدّها بالسلاح. كما تبنّت سلسلة اغتيالات في لبنان لقادة فلسطينيين قالت إنّهم على “صلات أمنيّة” مع الضفّة.

في الواقع عمليات الاستيطان والتهويد وقمع الناشطين الفلسطينيين سياسات اعتمدتها كلّ الحكومات الإسرائيلية في الضفة الغربية منذ احتلالها عام 1967. وشنّت الحكومة السابقة برئاسة يائير لابيد قبل نحو سنتين حملة اعتقالات ضخمة أطلقت عليها اسم “كاسر الأمواج”، بعنوان “منع تنفيذ عمليات تفجير داخل إسرائيل”. وسبق ذلك إطلاق سياسة “جزّ العشب” التي تنصّ على القضاء على مجموعات فور تشكّلها.

كما أطلقت الحكومة الحالية “خطّة الحسم” من أربع مراحل:

– إحداث فوضى في الضفة الغربية.

– ثمّ إسقاط السلطة الفلسطينية.

– ثمّ تصفية الحركة الوطنية الفلسطينية.

– ثمّ ترحيل الفلسطينيين.

هناك اختلافات كبيرة بين الضفة وغزة من حيث الطبيعة الجغرافية ووضع المقاومة والانتشار السكّاني. فالضفة تتميّز بمساحتها الشاسعة مقارنة بالقطاع

نتنياهو “يجسّ نبض” العرب

يتركّز الهجوم الحالي على المحافظات في شمال الضفّة في محاكاة لما جرى في شمال القطاع قبل الانتقال إلى وسطه ثمّ إلى الجنوب في خان يونس ورفح. وبذريعة ملاحقة “كتائب” المقاومة يجري تدمير المخيّمات لإجبار سكّانها على الرحيل، وكذلك يجري التركيز على المستشفيات لشلّ القدرة على معالجة المصابين واستمرار الحياة المدنية.

طبعاً هناك اختلافات كبيرة بين الضفة وغزة من حيث الطبيعة الجغرافية ووضع المقاومة والانتشار السكّاني. فالضفة تتميّز بمساحتها الشاسعة مقارنة بالقطاع، وتوجد فيها التلال والوديان والبساتين، ويتداخل فيها وجود المستوطنين بمحاذاة الفلسطينيين. وهذا ما يرجّح قيام إسرائيل باستئصال محدود في أماكن محدّدة وعدم الذهاب إلى عمليات كبيرة تفادياً لنزوح جديد للمستوطنين.

إقرأ أيضاً: ردّ الحزب وضعف “المحور”

كما أنّ وضع المقاومة مختلف من حيث الحجم والتنظيم والتسلّح. وربّما العمليات المقتصرة على أجزاء من الضفّة هي بالونات اختبار للمواقف العربية والفلسطينية وقياس ردّ فعل السلطة الفلسطينية قبل القيام بعمليات أوسع.

في الضفة الغربية تواجه السلطة الفلسطينية والوحدة الوطنية أصعب اختبار. ومع كلّ رصاصة تطلق سيشعر بأزيزها عرب 1948، ويسمع دويّها في الأردن الذي قال نتنياهو مرّة إنّه فلسطين. ويصير القلق الأردني والمصري والعربي أكبر بعد حديث دونالد ترامب عن أنّ “الوقت قد حان لتوسيع إسرائيل”.

الضفة برميل بارود تدخله إسرائيل حاملة ولّاعة في غياب المِطفأتين العربية والفلسطينية.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…