“ثمّ كلّم الربّ موسى قائلاً: أرسل رجالاً ليتجسّسوا أرض كنعان التي أنا معطيها لبني إسرائيل. رجلاً واحداً لكلّ سبط من آبائه ترسلون. كلّ واحد أمير فيهم”.
سفر العدد، الإصحاح الثالث عشر
عرّفت المادّة 29 من اتفاقية لاهاي لعام 1907 “الجاسوس” بأنّه ذلك الذي يقوم بممارسات في الخفاء أو عن طريق الخداع أو التنكّر بهدف البحث أو الحصول على معلومات من دولة بغرض نقلها أو إيصالها إلى دولة أخرى عدوّة. كما عرّفت المادّة 46 من بروتوكول 1977 الملحق لاتفاقية جنيف لعام 1949 الجاسوس بأنّه ذلك الذي يجمع أو يحاول جمع معلومات ذات قيمة عسكرية، في الخفاء أو باستعمال الغشّ والخداع.
على الرغم من عدم الاتّفاق على تعريف موحّد للتجسّس، فالمتّفق عليه هو اعتبار التجسّس من الجرائم المخلّة بأمن الدولة الخارجي. لكنّ المفارقة تبقى قائمة بالنسبة للتجسّس الصناعي مثلاً بين شركات متنافسة أو التجسّس لحماية فئة مستضعفة من قوّة جائرة، أو على طريقة ويكيليكس بكشف الأسرار المكتومة للمنظومات السياسية وفضحها أمام العامّة.
المتّفق عليه هو اعتبار التجسّس من الجرائم المخلّة بأمن الدولة الخارجي. لكنّ المفارقة تبقى قائمة بالنسبة للتجسّس الصناعي مثلاً بين شركات متنافسة أو التجسّس لحماية فئة مستضعفة من قوّة جائرة
الجاسوس… المفيدة عداوته
لكن يبقى أنّ الجاسوس سيعتبر بطلاً لمن يتجسّس من أجله، وقد يسقط شهيداً، أو مجرماً وخائناً بالنسبة للطرف المتضرّر. وهذا هو الحال عامّة بالنسبة لتوصيف الخير والشرّ وتفريق الأخيار عن الأشرار. لكنّ التجسّس تطوّر بشكل عظيم منذ الثورة التكنولوجية ووسائل التواصل المعقّدة، وصارت مساهمة العنصر البشري في التجسّس ضئيلة بشكل كبير بالمقارنة مع الهواتف النقّالة ووسائل التنصّت والطائرات المسيّرة والأقمار الصناعية. لكنّ الحديث الآن ليس عن العملاء والجواسيس، أكانوا أبطالاً لخدمة بلدهم، أم مأجورين لخدمة بلد عدوّ، أم عقائديين يظنّون أنّهم يخدمون عقيدتهم بخدمة بلد غير بلدهم بسبب توافق العقيدة مع هذا البلد، وكم من منظومات دمّرت بلادها تحت هذا الشعار من دون أن تعتبر نفسها عميلة!
الحديث هنا هو حول كيف يمكن أن تخدم العدوّ من دون عمالة أو تكليف، لا بل من خلال أقصى درجات العداوة للعدوّ والسعي إلى تدميره وهزيمته.
منذ يوم إعلان تقسيم فلسطين سنة 1947، كان بن غوريون وقادة ما كان يسمّى بالعصابات الصهيونية يعوّلون على ردّة فعل العرب المنطقية برفض قرار التقسيم، ثمّ الذهاب إلى حرب معروفة النتائج سلفاً بناءً على موازين القوى العسكرية. فقد كانت العصابات الصهيونية جيشاً حقيقياً بلغ عديده أكثر من مئة ألف، في حين أنّ كلّ الدول العربية لم تتمكّن من حشد إلا أقلّ من أربعين ألف مقاتل، بقيادات مفكّكة وتدريب بدائي للمتطوّعين الذين أخذتهم الحميّة إلى ساحة معركة لم يعُد الكثيرون منها.
الجاسوس سيعتبر بطلاً لمن يتجسّس من أجله، وقد يسقط شهيداً، أو مجرماً وخائناً بالنسبة للطرف المتضرّر
نتيجة الحرب توسّع الاحتلال من 53% من أراضي فلسطين إلى 78%. وبعدما وقّعت دول جوار فلسطين الهدن كلٌّ منها على حدة، تحوّلت إسرائيل بسرعة من مجموعة عصابات صهيونية إلى دولة تديرها عقلية العصابات.
القادة المحاربون… عملاء؟
درجت العادة، منذ ذاك الحدث الجلل الذي سمّي “النكبة”، أن نتّهم قادة أشباه الدول التي حاربت سنة 1948 بأنّهم عملاء، وقد يكون الأمر صحيحاً، فعلى الأرجح لم تكن القوى الاستعمارية لتترك قادة على كراسيها من دون أن تكون فيهم علّة أو علل. وقد تكون الحميّة والرغبة بإنقاذ أهل فلسطين هما الدافع، لكنّ قلّة الحيلة جعلت من النتيجة كما نعلم.
لو أحجم هؤلاء عن المغامرة بالمتطوّعين لكانوا وُصفوا حتماً بالعملاء أيضاً. وفي حال نادرة، قد يكون القائد صادقاً وحكيماً، فينصح بالتروّي لكي يتمّ إعداد العدّة ودعم الاقتصاد وتوفير أسباب النصر أو التسويات المتوازنة، فيتّهم بالضعف والتخاذل أو الماسونية أو العمالة. وكلّ تلك الصفات أطلقها زعماء العرب بعضهم على بعض، على طريق القدس وفلسطين، ومع ذلك كانوا يتبادلون القبل في القمم العربية المملّة.
بعدما وقّعت دول جوار فلسطين الهدن كلٌّ منها على حدة، تحوّلت إسرائيل بسرعة من مجموعة عصابات صهيونية إلى دولة تديرها عقلية العصابات
حتّى عبد الناصر، مخترع الخطاب العروبي ورائده، اتّهم بالتخاذل عشيّة نكسة 1967 من قبل مزايدي حزب البعث في سورية، فاستدرج إلى حرب كلّفته سيناء وكلّفت سورية الجولان وكلّفت فلسطين ما بقي منها. ولا أظنّ أنّ أيّاً من القادة الذين استدرجوا إلى الحرب كانوا عملاء، بل كانوا بالتأكيد من أصحاب أصفى النيّات وأصدقها لتدمير وهزيمة دولة العدوّ. لكنّهم بحكم النتائج، بحميّتهم ومحاولتهم الذود عن شرفهم وعن أمّتهم، خدموا العدوّ من حيث لا يدرون. وهذا غيض من فيض، على الرغم من أنّ الحبيب بورقيبة، رئيس تونس، وشارل حلو، رئيس لبنان، حذّرا الإخوة العرب من الفخّ المنصوب، لكنّ الحميّة منعتهم من الإنصات. وكم من عسكري انقلب على من سبقه في الحكم بحجّة التحضير للمعركة المقبلة، فتكون النتيجة تدمير الحاضر والممكن، من أجل العدم، إلى أن يأتي من يكرّر الشيء ذاته… وكلّهم كانت لديهم الحميّة ذاتها لهزيمة العدوّ!
إيران تنفّذ أمنيات إسرائيل
ما لنا ولكلّ هذه الدسائس المغرضة في حقّ التاريخ “المجيد”، فلكلّ شعاراته ويقينيّاته التي يحملها كحرز في رقبته ليحميه من شرّ التساؤل والمراجعة ومن شرّ الوسواس الخنّاس الذي يذكّره بأن يستفيد من التجارب الكارثية ويعيد النظر. لكنّ حرز اليقينيات يحميه من محنة السؤال. وأتى، وسيأتي حتماً، من يوحي بأنّه غير الذي كان، وبأنّه أصدق وأشرف وأطهر الناس، والأهمّ أكثر قدرة على الفداء والاستشهاد. وعلى الرغم من ذلك ترى الأساليب المتّبعة والشعارات المرفوعة والخطابات الحماسية مجرّد صدى لما مضى، كما النتائج.
من هنا يجب أن نتساءل حول تجربة ولاية الفقيه التي حملت الراية عن العرب منذ بضعة عقود، وافترضت أنّ كلّ ما ومن سبقها على طريق القدس كانوا كاذبين أو فاشلين أو عملاء، وكلّهم كان ينقصهم الإيمان بمعجزة ستأتي لتغيير عجلة التاريخ الأعمى.
العداء هو تنافس بين كيانين يسعيان إلى الشيء ذاته، كلٌّ بأسلوبه، وكلٌّ يحمل إرثاً من الأساطير لدعم مبتغاه ودفع التضحيات إلى أقصى ما يمكن في سبيل الانتصار
على عكس المتشكّكين الخبثاء الذين يفترضون أنّ تحالفاً فارسياً صهيونياً قائم بشكل مؤامرة على العرب، باتت لديّ قناعة أنّنا لا نحتاج إلى مؤامرة لأنّنا بعقليّاتنا القبليّة مؤامرة ذاتية، وأنّ العداء حقيقي وشديد بين إيران ولاية الفقيه وإسرائيل، لكنّ هذا العداء لأسباب غير نصرة أو حماية الفلسطينيين، بل هو صراع على النفوذ بين دولة تريد الحفاظ على التفوّق العسكري والتكنولوجي المطلق في المنطقة، وبين دولة اتّخذت من عقيدة وإيمان موروثين لاستعادة إمبراطورية قديمة في سبيل تحقيق التفوّق العسكري والتكنولوجي والاقتصادي.
من هنا نرى أنّ العداء هو تنافس بين كيانين يسعيان إلى الشيء ذاته، كلٌّ بأسلوبه، وكلٌّ يحمل إرثاً من الأساطير لدعم مبتغاه ودفع التضحيات إلى أقصى ما يمكن في سبيل الانتصار. لكن في حمأة هذا الصراع الصادق، نرى أنّ إيران ولاية الفقيه فعلت أكثر بكثير ممّا تتمنّاه عدوّتها إسرائيل بدول وشعب العرب. فالعراق وسورية ولبنان استبيحوا على طريق القدس ودمّر اقتصادهم وتمّ تهجير نخبهم وهُجّر وقتل منهم أضعاف ما تسبّبت به إسرائيل على مدى وجودها.
بالنتيجة، قد تأتي خدمة العدوّ في كثير من الأحيان من قبيل العداوة.
إقرأ أيضاً: توقيت طهران لانفراد الحزب: لبنان لن يتأثّر بالرّدّ الإيرانيّ
لمتابعة الكاتب على X: