غادرنا أمس عن 94 عاماً رجل الدولة اللبنانية بلا منازع. غادرنا الرئيس الذي لا يتكرر سليم الحص، تاركاً خلفه وبيننا سيرةً ولا أنصع، وسلوكيات في السياسة والدولة والشأن العام لا خلاص لنا بعيداً عنها.
سيسيل حبر كثير في رثاء سليم الحص، وحوله وعنه. فالرجل ليس رجل لحظة سياسية أو وطنية. وليس رجلاً عابراً في تاريخ لبنان. كما أنه ليس رجل سياسة بمعنى العمل السياسي المباشر. سليم الحص رجل دولة وتاريخ. سيظلّ المؤرخون والدارسون والباحثون والإعلاميون يتناولونه في أبحاثهم ودراساتهم ومقالاتهم وكتبهم. كما سيظلّ اللبنانيون يترحّمون عليه كابراً عن كابر، وحتى بلوغ الدولة، الدولة التي سعى إليها سليم الحص منذ دخل مجال العمل في الشأن العام.
النزاهة، والآدمية، والشفافية، والصدق والإخلاص والتفاني والأمانة والوطنية بعض صفاته. سننتظر كثيراً، وهذا ما لا يرجوه أحد في لبنان، حتى تجتمع في سياسيّ لبنانيّ هذه الصفات كلها.
غادرنا أمس عن 94 عاماً رجل الدولة اللبنانية بلا منازع. غادرنا الرئيس الذي لا يتكرر سليم الحص
عصيّ على الموت
سليم الحص لا يموت، برغم نعيه من قبل كثيرين يتقدّمهم رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي. سيبقى ماثلاً أمام كل ساعٍ إلى بناء الدولة. وسيبقى معياراً يقاس به كل مشتغل بالشأن العام في لبنان: كلما اقترب منه ومن سلوكياته اقترب من اللبنانيين ودخل التاريخ من أوسع أبوابه. وكلما ابتعد عنه وعن سلوكياته ابتعد عن اللبنانيين.
يشعر المرء بغصة في وداع سليم الحص. منبت الغصة وأصلها، أنه يغادرنا اليوم، في هذه الظروف الاستثنائية وشديدة الصعوبة، ونحن بلا دولة ولا مؤسسات ولا عمل مؤسساتي. نرنو إلى أحوالنا ونقول: أحقاً كان بيننا رجل يُدعى سليم الحص، غادرنا قبل قليل، ولم نبنِ دولةً ومؤسسات ونسيّج وطننا ونحافظ عليه؟ متى نبنيه إذاً؟
يختلف اللبنانيون في وطنهم هذا على كل شيء، إلا على سليم الحص. هو رجل يُجمع عليه اللبنانيون، سواء اتفقوا مع سياساته أو اختلفوا: الجميع يجمع على نظافة كفّه، ونقاء ضميره، وبهاء سيرته، ونصاعة تاريخه، ورؤيويته وشفافيته وسعيه إلى الإصلاح. لا يختلف لبنانيان على سليم الحص، وهذا في وطن مثل لبنان، معجزة ما أتى نبيّ طوال التاريخ بمثلها.
سليم الحص لا يموت، برغم نعيه من قبل كثيرين يتقدّمهم رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي. سيبقى ماثلاً أمام كل ساعٍ إلى بناء الدولة
من الجامعة إلى الشأن العام
وُلد سليم أحمد الحص، في العام 1929، في حوض الولاية في بيروت. تلقّى تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس المقاصد، ثم أكمل دراسته الجامعية في الجامعة الأميركية في بيروت ليتخرج منها مجازاً في الاقتصاد والعلوم السياسية، ويسافر بعدها إلى الولايات المتحدة الأميركية ليتابع تحصيله الأكاديمي وينال شهادة الدكتوراه في الاقتصاد والعلوم السياسية من جامعة أنديانا.
بعدها عاد إلى لبنان ودخل في سلك الدولة، قبل أن يحترف العمل السياسي على طريقته، فيرأس أكثر من حكومة، أولاها كانت في العام 1976، في عهد صديقه الرئيس الياس سركيس، واستمرت حتى العام 1979، حين شكّل حكومة أخرى استمرت حتى العام 1980.
وفي 1 حزيران 1987، تولّى رئاسة الحكومة بالوكالة بعد اغتيال الرئيس رشيد كرامي، في عهد الرئيس أمين الجميل. ثم شكّل حكومةً عام 1989 استمرت حتى العام 1990، في عهد الرئيس إلياس الهراوي.
آخر حكوماته كانت في العام 1998 واستمرت حتى العام 2000، في عهد الرئيس إميل لحود، حيث عارض الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
شغل الحص خلال مسيرته السياسية والوطنية مناصب وزارية عدة، شُهد له فيها
شغل الحص خلال مسيرته السياسية والوطنية مناصب وزارية عدة، شُهد له فيها والسعي إلى الإصلاح والتطوير. أبرز المحطات السياسية المفصلية في تاريخه، وهي كثيرة، كانت عام 1988، عندما تولّى رئاسة الحكومة بالنيابة بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل. يومها رفض الرئيس الحص، تسليم الحكم للحكومة العسكرية التي شكّلها الجميل برئاسة قائد الجيش آنذاك العماد ميشال عون، لأن حكومة الأخير لم تكن ميثاقيةً كونها لا تضمّ وزراء من الطوائف الإسلامية. كان رئيس حكومة نصف لبنان.
في أول انتخابات نيابية بعد الحرب الأهلية وإقرار اتفاق الطائف الذي لعب فيه دوراً بارزاً، انتُخب نائباً عن بيروت عام 1992، وأعيد انتخابه عام 1996، لكنه خسر مقعده النيابي إلى الأبد عام 2000، عندما خسر في الانتخابات في وجه القائمة التي شكّلها الرئيس رفيق الحريري.
يُشهد للرئيس الحص أنه لم يشتغل سياسةً على الطريقة اللبنانية المقيتة. لم يكن رجل أزقّة وزواريب
سلوك لو يتكرر
يُشهد للرئيس الحص أنه لم يشتغل سياسةً على الطريقة اللبنانية المقيتة. لم يكن رجل أزقّة وزواريب. لم يُجِد يوماً الألاعيب والبهلوانيات السياسية التي يشتهر بها ساسة لبنان. لم يستثمر يوماً في حدث، ولم يستغلّ منصباً لكسب تأييد شعبي. في محطات مفصلية حمل المسؤولية وكانت تأكل من رصيده الشعبي. كان في السياسة رجل مواقف ومبادئ، وفي الإدارة رجل إصلاح وتطوير، وفي الحياة عصامياً لا ينازعه في ذلك منازع. لم يرِث ولم يورّث، وبقي حتى آخر رمق أميناً على مبادئه وتاريخه.
يُشهد أيضاً لسليم الحص أنه كان كلما دخل جهنم الحكم وخرج منها، يقدّم للّبنانيين والتاريخ شهادةً موثّقةً عن تجربته غالباً على هيئة كتاب، وفي أحايين كثيرة كان يكتب في الصحف اللبنانية مصوّباً لأهل الحكم وهو خارجه. وهو في ذلك، مضرب مثل في الشفافية، ومثل أعلى لو يقتضي به السياسيون في لبنان.
إقرأ أيضاً: طلال سلمان في ذكراه… “أين الطريق”؟
يُذكر أن للراحل مؤلفات عديدة غالبيتها عن تجربته في الحكم ورؤيته إلى القضايا المصيرية التي لا تزال مطروحةً في بلادنا، وأبرزها “نافذة على المستقبل” (1981)، “لبنان المعاناة والسلم” (بالإنكليزية، 1982)، “لبنان على المفترق”(1983)، “نقاط على الحروف” (1987)،”حرب الضحايا على الضحايا” (1988)، “على طريق الجمهورية الجديدة” (1991)، “عهد القرار والهوى” (1991)، “زمن الأمل والخيبة” (1992)، “ذكريات وعِبَر” (1994)، “للحقيقة والتاريخ” (2000)، “محطات وطنية وقومية” (2002)، “نحن والطائفية” (2003)، “عصارة العمر” (2004)، “صوتٌ بِلا صدى” (2004)، “تعالوا إلى كلمة سواء” (2005)، “سلاح الموقف” (2006)، “في زمن الشدائد لبنانياً وعربياً” (2007)، “ما قل ودلّ” (2008)، كما له الكثير من المقالات التي تصدرت صفحات الصحف اللبنانية والعربية والعالمية.
لمتابعة الكاتب على X: