“أسمّيك في السرّ، أرسم في الصمت عينيك، عيناك تاريخ كلّ الدموع
وأكتب قلبي رسالة حبّ، وأكتب وجهك، أكتب قلبي على وجهك ثمّ أمزّقه…
أسمّيك الحكايات أم العمرَ، أسمّيك الأزاهير أم العطرَ
بلا أنت الحكاياتُ الأزاهير، وأنت العمرُ والعطرُ
وأنت الوجع الصارخ فوق الجسر، يا هيفا… أسمّيك بلادي…
(موسى شعيب من قصيدة “هيفاء تنتظر الباص على مفرق تلّ الزعتر”)
كانت الجدّة أم كايد تقرأ السيرة النبوية عندما ولدت حفيدتها، وكانت موشومة بوحمة لطيفة على أسفل ظهرها، فسمّتها شيماء تيمّناً بأخت النبي محمّد في الرضاعة. كبرت شيماء ولم تحبّ اسمها، إلى أن صارت في الثامنة من عمرها يوم أجريت لها عملية استئصال الزائدة في مستشفى المعمداني في غزة.
تعرّفت على الدكتورة شيماء الأميركية الفلسطينية التي رعتها في المستشفى. قالت الدكتورة لشيماء الصغيرة بأنّ من تحمل اسم شيماء تكون عطوفة ورومانسية ودافئة، وهي إنسانة تظهر المودّة في سلوكها كما أنّها صاحبة ذوق رفيع. تسعى إلى رعاية الآخرين، وفي المقابل هي محبوبة لأنّها إنسانة مهذّبة وحنونة وصبورة ومتفهّمة ومتسامحة، وهي دائماً ما تبذل أقصى جهودها لإسعاد أسرتها وأصدقائها. تقدّر الصدق والعدالة، وجديرة بالثقة. تقدّم المشورة الحكيمة وتحتفظ بأسرار مَن حولها، وهي إنسانة خلّاقة.
على الرغم من ذلك تحمل شخصية متواضعة وتعتبر الجمال الداخلي أمراً أكثر أهميّة من المظاهر. يمكن أن تعمل في المجال الذي يتعلّق بالحسّ الجماليّ. يُمكن أن يُناسبها العمل في مجال الموسيقى، الغناء، الرسم، لكنّها تسعى إلى إتقان أيّ مهنة تعمل فيها. أصبحت شيماء تحبّ اسمها وتتغنّى به، وقرّرت منذ تلك اللحظة أن تدرس لتصبح طبيبة تخدم أحبّاءها ومعارفها بأفضل طريقة، وأن تعود للتطوّع في المستشفى المعمداني مثل طبيبتها شيماء. ولمّا كانت تحبّ الموسيقى، قرّرت أن تشارك في كورال غزة، وشاركت في إنشاد أغنية صوفيّة عنوانها “يا نسيم الريح” منسوبة للحلّاج.
تفوّقت شيماء في كلّ شيء قامت به، وخاصة في الدراسة، بتواضع واحترام، وكانت تسمع جدّتها تتلو آيات ليحفظها الله من شرّ حاسد
جامعة بركلي وحيرة شيماء
تفوّقت شيماء في كلّ شيء قامت به، وخاصة في الدراسة، بتواضع واحترام، وكانت تسمع جدّتها تتلو آيات ليحفظها الله من شرّ حاسد إذا حسد ومن شرّ النفّاثات في العقد. لكنّ شيماء وقعت في حيرة عندما أتى قبولها لتدرس في جامعة بركلي في ولاية كاليفورنيا بمنحة كاملة من وكالة المساعدات الأميركية. فكيف ستترك أهلها وتتخلّى عن لمسات أمّها ودعوات جدّتها؟ وكيف ستنقطع عن زيارة قبر والدها الشهيد الذي سقط على شاطئ غزة عندما استهدف العدوّ قارب صيد كان يسعى به إلى رزقه، مثله مثل العديد من جيران شيماء؟
كما أنّها كانت محرجة من اللجوء إلى مساعدات من دولة تسبّبت بالمآسي لأهلها وناسها بدعمها للعدوان المستمرّ منذ النكبة التي أتت بعائلتها من ضواحي القدس إلى مخيّم نصب على شاطئ البحر. لكنّها اقتنعت بعدما رضيت عليها جدّتها، وأقنعتها والدتها بأنّها ستخدم قضيّتها وناسها بشكل أفضل، إن هي تعلّمت وعادت بشهاداتها، حتى لو من حضن العدوّ. من يومها صار اسمها الدكتورة شيماء. الكلّ ينادونها بتحبّب الدكتورة، وهي تردّ بابتسامة وتقول “إن شاء الله”.
كان من المفترض أن تسافر شيماء بعد حصولها بتفوّق على الشهادة الثانوية من مدرسة الأونروا، وكانت تحلم بكلّ ما ستعيشه في دراستها، وكيف ستشرح لزملائها عن قضية فلسطين، وتسفّه الحجج الصهيونية، وكيف ستعود بعد سنوات حاملة الشهادة والاختصاص الذي لم تقرّره بعد، متردّدة بين الجراحة والأطفال والنسائي، لكنّها بالتأكيد ستعود وتشارك مع كورال غزة في مشاريع جديدة، لاقتناعها أنّ الفنّ والموسيقى، كما العلم، وسائل من مستلزمات الصمود والمقاومة. تأخّر سفر شيماء لأسباب إدارية وللاستحصال على التأشيرة ووثيقة العبور إلى المطار تحت أعين جنود الاحتلال. كان كلّ شيء جاهزاً حتى أتى صباح السابع من أكتوبر.
تحجّرت دموع شيماء، ولم تتمكّن من البكاء على أمّها التي دُفنت في قبر من غير شاهد قرب البيت المدمّر
شيماء وطوفان الأقصى
احتفلت شيماء مع أهلها وجيرانها بطوفان الأقصى، حين كسر المجاهدون أسوار المعتقل، وكسروا معه أنوف السجّانين… عرفت منذ تلك اللحظة أنّ مشاريعها قد تكون في خطر، فردّ العدوّ لا بدّ أن يكون شديداً، لكنّ الحياة ستعود إلى طبيعتها بعد أسابيع من المعاناة والخوف، وهي ظروف اعتادها أهل غزة. لكنّ حجم خسائر العدوّ كان يشي بأنّ الأمر سيطول، فمنّت شيماء نفسها بأنّ الانتصار يستأهل تأجيل المشاريع الشخصية، وإن خسرت منحة بركلي، فجامعة عين شمس في القاهرة تبقى خياراً بديلاً. بعد أيام، تطوّعت شيماء لإسعاف الجرحى في المستشفى المعمداني، وكانت تعود بعد نهار طويل، وأحياناً مع وجه الصبح، مضرّجة بالدماء، بقسمات متحجّرة، إلى أن تنهار بالبكاء عند الاغتسال بما توفّر من ماء عالق في الأنابيب، بعدما أغلق السجّانون مصادر المياه كجزء من العقاب الجماعي.
في السابع عشر من تشرين الثاني، وبعد بضع ساعات من نهاية نوبتها، سقط صاروخ على مستشفاها المحبّب، وقتل عدد من المرضى الذين كانت ترعاهم، وسقط معهم بعض من رفاقها المسعفين. تحاملت شيماء على صدمتها وحزنها، وهرعت للمشاركة في إنقاذ من بقي من المرضى والأصحاب وعابري السبيل ولاجئين ظنّوا أنّ حرمة المستشفى ستحميهم من الحقد. بكت شيماء لأيام بالسرّ حتى لا تتأثّر المعنويّات، ولم تتوقّف عن المشاركة في إغاثة من بقي في المستشفى المنكوب، إلى أن سقط صاروخ على بيتها فقُتلت أمّها ونجت جدّتها بأعجوبة، وكانت هي كعادتها في مهمّاتها خارج البيت. قال العدوّ إنّ أحد المقاومين كان قد بات ليلته في منزل قريب، فقصف المحيط بأطنان من القذائف، وقتل أكثر من مئة من الجيران، ولا شيء يؤكّد أنّ المقاوم الذي مرّ من هنا قد أصيب، ولا يبدو أنّ جيش الاحتلال يريد إصابته أصلاً، لكنّه بالتأكيد كان يريد إصابة جيران شيماء.
كان من المفترض أن تسافر بعد حصولها بتفوّق على الشهادة الثانوية من مدرسة الأونروا، وكانت تحلم بكلّ ما ستعيشه في دراستها
الوقت ليس للوفاء
تحجّرت دموع شيماء، ولم تتمكّن من البكاء على أمّها التي دُفنت في قبر من غير شاهد قرب البيت المدمّر، مع أنّ وصيّة الأمّ كانت أن تدفن بجوار زوجها الشهيد، لكنّ الوقت ليس للوفاء بالعهود، بل للبحث عن مأوى جديد. بقيت شيماء تتنقّل بين ملجأ وآخر، وتشارك في إسعاف الجرحى في كلّ مكان تلجأ إليه، إلى أن وصلت جدّتها إلى مدرسة التابعين قبل أيام. كان العالم مشغولاً في كيفية الردّ على اغتيال المسؤولين في طهران والضاحية الجنوبية لبيروت، والجدّة أم كايد كانت تتساءل عمّن سيردّ على مقتل ابنتها وصهرها وجيرانها! وفيما كانت شيماء، كالعادة، تشارك في عمليات الإسعاف، سقطت ثلاثة صواريخ على المدرسة، وهدمت ملجأ أم كايد فوق ما بقي من جسمها.
إقرأ أيضاً: من ينقذ إيران من أوهام صنعتها حول “الردّ” و”القوّة”؟
هرعت شيماء إلى المكان، وأخذت تنادي على جدّتها، لكنّ نداءها ضاع في ضوضاء المسعفين وأصحاب الهمم الذين أخذوا يرفعون الأنقاض بأيديهم. بعد يومين دفنت أمّ كايد، كابنتها أمّ شيماء، في قبر من دون شاهد جمعها مع جيرانها، وفيما كانت شيماء تتلو الفاتحة وتترحّم على جدّتها، دفنت أحلامها إلى جانب من دفنوا، ثمّ ذهبت تبحث عن صاروخ يسقط عليها بعدما مات كلّ شيء يعنيها.
لمتابعة الكاتب على X: