من ينقذ إيران من أوهام صنعتها حول “الردّ” و”القوّة”؟

مدة القراءة 7 د

“تعا ولا تجي واكذب عليّ، الكذبة مش خطيّة

وعدني إنّو راح تجي، وتعا ولا تجي

والإبر مسنونة والعيون مسنونة، ويا خوفي الحكي يجي؟”

مسرحيّة بيّاع الخواتم للرحابنة

مسكينة تلك البلاد وتلك الشعوب التي أوجدتها الصدفة ومسار التاريخ الأعمى في جغرافيا قائمة دائماً بين حجرَي رحى تجعل كلّ الخيارات بطعم العلقم. لكن قد يقول قائل إنّ كلّ الكيانات الاجتماعية والسياسية تعيش في حمأة تلك الخيارات الصعبة على مدى وجودها. لكنّ الفرق أن يكون الاختيار بين السيّئ والأسوأ أو بين الجيّد والأجود. وهي حسابات إحصائية، بعضها فطريّ يجعل من النتائج في حكم التمنّيات، وبعضها يستند إلى حسابات دقيقة تجعل من هامش الخطأ صغيراً إلى أقلّ قدر ممكن. لكنّ الكارثة تقع عندما تأخذ العزّة بعض المنظومات بالإثم، فتغامر بالمزيد من الخسارة. وعادة تقع الخسارة على الناس الذين أوجدتهم الصدف والتاريخ الأعمى في الجغرافيا الملعونة.

في النهاية، وحسب تأكيد المعنيين بالأمر، الحزب هو إيران في لبنان كما هو لبنان في إيران

لن أتحدّث في هذا السياق عن الحزب. ففي النهاية، وحسب تأكيد المعنيين بالأمر، الحزب هو إيران في لبنان كما هو لبنان في إيران. لكنّ المؤكّد أنّ الأرجحية في المسار والقرار هي لمصدر العقيدة، أي للوليّ الفقيه، “حسيننا في هذا الزمان” حسب قول الأمين العام للحزب. وهو الذي يدفع المعاشات ويفدي الشهداء ويشحن السلاح. لأجل ذلك سأحصر مسألة الردّ وعدمه بإيران. وإن اختُرعت فتوى ما تحمي إيران من تبعات الردّ وترمي كارثة التبعات على لبنان. وهو ما يمكن استنتاجه من كلام نصر الله عن كون انتظار العدوّ للردّ هو بحدّ ذاته جزء من القصاص. وهذا كلام صحيح، لكنّ القصاص ذاته يعيش اللبنانيون تحت تهديده وظلمه منذ الثامن من تشرين الأول الماضي، يوم بدأت حرب المشاغلة. أو ربّما منذ شباط 2005، يوم قرّر الحزب اغتيال رئيس وزراء لبنان تمهيداً للاستيلاء على البلد. أو منذ سنة 1985 يوم أعلنت مجموعة من اللبنانيين الجهاد تحت راية “أمّة حزب الله التي نصر الله طليعتها في إيران”.

إيران… والدول المتداعية والمنتهية الفعالية

إيران، شرطيّ الخليج في أيّام الشاه، تحوّلت إلى شمشون الشرق الأوسط منذ عودة الإمام الخميني سنة 1979 للاستيلاء على الحكم. ومن بعدها بدأ استعراض القوّة بقرار تصدير الثورة. ومن بعدها نشبت حرب طويلة ومدمّرة مع العراق. فكانت بداية الوقوع بين حجرَي الرحى في الخيارات المرّة بين الاقتناع بحدود دولة إيران وصنع دولة طبيعية متصالحة مع ذاتها تريد الازدهار والرفاهية لشعبها، وبين حلم استعادة الإمبراطورية الساسانية أو الإخمينية بنسخة مبنيّة على اجتهادات فقهية وأسطورية.

هنا علينا ألّا نغفل أنّ إيران ولاية الفقيه قد تمكّنت بالكثير من الصبر والتضحيات من تحقيق موقع متقدّم في السياسة الدولية على مدى العقود الأربعة الماضية. في زمن كانت تحرّكاتها تخدم إلى حدّ ما مشاريع قد تبدو على نزاع معها. فعلى الرغم من شعار الشيطان الأكبر بخصوص الولايات المتحدة الأميركية، فإنّ هذا الشيطان جنى منافع شتّى من وراء تحرّكات إيران من خلال بيع تريليونات من السلاح والتكنولوجيا والمنافع التجارية الأخرى لدول متضرّرة أو متخوّفة من توسّع إيران.

إيران، شرطيّ الخليج في أيّام الشاه، تحوّلت إلى شمشون الشرق الأوسط منذ عودة الإمام الخميني سنة 1979 للاستيلاء على الحكم

من ناحية إسرائيل، فعلى الرغم من شعار “يا قدس نحن قادمون”، فإنّ الدول المحيطة بإسرائيل حوّلتها إيران إلى كيانات متداعية ومنتهية الفعّالية من خلال نشر الميليشيات فيها. كما أنّ خطر مشاريع إيران أعطى لإسرائيل منافع الحماية والتضامن الغربي بمختلف أشكاله. وأحد أشكاله كان السور الجوّي الذي نُصب فوقها في الهجوم الإيراني الأخير. كما أنّه على الرغم من شعارات مناصبة العداء للاستكبار العالمي، فإنّ إيران ما تزال تسعى إلى التعاون مع هذا الاستكبار ليعترف بها عضواً في نادي المستكبرين.

موجبات الردّ… وعدمه

لكنّ الواقع اليوم وضع إيران، من خلال لعبة صهيونية خبيثة، بين حجرَي رحى الخيار: بين وجوب الردّ على الإهانة، ووجوب عدم الردّ عليها:

– فمن ناحية وجوب الردّ فإن حقّ الردّ يصبح واجباً عندما يتعلّق الأمر بالاحتفاظ بالهيبة لمواجهة أيّ إهانة مستقبلية متوقّعة في حال التغاضي عن الردّ بشكل فاعل وموجع. وبالنسبة لإيران التي تعيش صراعاً داخلياً حول دورها الإقليمي مقابل سعي الكثيرين إلى دفعها لأن تحصر اهتماماتها بالشأن الداخلي، فإنّ الردّ ضروري ليثبت الحرس الثوري أنّ التضحيات التي فرضت على المجتمع الإيراني تهون في سبيل تحصين وحفظ الكرامة والشرف الوطنيّين. وضرورة الردّ تأتي لتهدئة روع الأتباع والحلفاء، أوّلاً بكون إيران قادرة على حمايتهم، وثانياً بأنّهم لن يضحّوا لوحدهم، في حين تنعم مدن إيران بالاستقرار والحماية من الشرّ. بالمحصّلة فإنّ واجب الردّ ضرورة قد تكون وجوديّة لمشروع ولاية الفقيه ليستمرّ، أكان في الداخل أم في الإمبراطورية الافتراضية التي استولت عليها على مدى العقود الماضية.

من ناحية إسرائيل، فعلى الرغم من شعار “يا قدس نحن قادمون”، فإنّ الدول المحيطة بإسرائيل حوّلتها إيران إلى كيانات متداعية ومنتهية الفعّالية من خلال نشر الميليشيات فيها

– أمّا موجبات عدم الردّ فهي الآتية:

1- استدراج إيران إلى المكان الذي تحاشته على مدى عقود منذ نهاية الحرب مع العراق. وهو انتقال الحرب إلى داخلها.

2- احتمال تسبُّب الردّ بمواجهة مع قوى كبرى وقادرة تفوق قدراتها بمئات المرّات على مختلف المستويات.

3- كشف أيّ ردّ لهزال قدرات إيران إن كان محدود التأثير، أو يستدرج إلى حرب شاملة إن كان بالحجم الموعود به للردّ على الكرامة والشرف المهدورَين.

4- احتمال خسارة أراضٍ ومواقع وجيوش رديفة سيضعف حتماً قدرات إيران الردعية المفترضة. حتى لو لم يحصل ردّ على الردّ يطال الأراضي الإيرانية.

5- عدم تمكّن النظام ولا حرسه الثوري من تغطية أيّ خسارة كبرى على المستوى الداخلي، وبالتالي الهيبة التي يحكمان بها ستتضرّر بشكل خطير بما قد يؤدّي إلى سقوط هذه المنظومة، لكن بشكل دموي ومدمّر.

عدم الردّ ووجوب الردّ قد يكونان بالقدر ذاته مسألة وجودية لمنظومة ولاية الفقيه. وهنا الحديث يصبح واضحاً عن حجرَي الرحى

“بياّع الخواتم”… وراجح الكذبة

من هنا قد نستنتج أنّ عدم الردّ ووجوب الردّ قد يكونان بالقدر ذاته مسألة وجودية لمنظومة ولاية الفقيه. وهنا الحديث يصبح واضحاً عن حجرَي الرحى.

في ستّينيات القرن الماضي عرض الرحابنة مسرحيّتهم الشهيرة “بيّاع الخواتم” التي حوّلها يوسف شاهين إلى فيلم. تدور الحبكة حول مختار الضيعة الذي نسج كذبة عن شيطان أكبر اسمه “راجح” كان المختار يخوض معه معارك وملاحم لا تنتهي، موهماً الضيعة بأنّه من يحميها من استكبار راجح.

استمرّ ذلك إلى أن اكتشف بعض الخبثاء الكذبة وراحوا يستعملونها لتحقيق مكاسب على حسابها. والمختار حائر بين كشف الكذبة التي وفّرت له استمرار سلطته وديمومة هيبته، وبين أن يوقف الخبثاء عن استغلال الكذبة وكشف حقيقة راجح. وذلك إلى أن حضر راجح من عالم الغيب وأنقذ المختار من وقوعه بين حجرَي الرحى.

إقرأ أيضاً: فيلتمان يقارن بحرب 2006: المنطقة اليوم في مجهول خطير

يظنّ بعض الخبثاء أنّ إيران ستتمسّك بورقة الوقت والصبر الاستراتيجي لتفادي الأعظم، أو ليأتي راجح ما من عالم الغيب. في حين أنّ الخبث الصهيوني لن يتوقّف عن استخدام راجح الكذبة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…