روح قتاليّة عارمة… في صفوف شباب العرب؟

مدة القراءة 9 د

ما عاد احتمال الحرب في غزة ممكناً. وما عاد بالوسع تصديق ادّعاءات الأميركيين بأنّ بنيامين نتنياهو يستعصي عليهم، ولا يوقف الحرب. تبدو إسرائيل متفوّقة وتشنّ حرب إبادة. وقد رفعت السقف إلى الحرب المباشرة مع إيران. وتردّدت إيران في الردّ فأنجدها الأمين العامّ للحزب بالقول إنّه ينوب عنها. وأجابت حماس على تطرّف إسرائيل بتعيين يحيى السنوار خليفة لرئيسها إسماعيل هنية الذي اغتالته إسرائيل في قلب طهران. كلّ الأطراف لها حساباتها الخاصّة. والخاسرون هم الفلسطينيون واللبنانيون والعرب.

كنّا نستمع إلى أخبار المذبحة الجديدة في غزة في مدرسة التابعين، لنصغي قبلها وبعدها إلى برامج مقابلات عن عاصفة الغضب الجديدة في أوساط العرب والمسلمين، وأصوات كلّ شباب العالم. وقد كنت بين أوّل من كتبوا أنّ هذه الحرب لا تجلب خيراً وتتسبّب في شرّ كثير. لكن يكون من السذاجة أو عدم الإحساس أن لا يبلغ الروع بأحدنا حدوداً لا يمكن تقصّيها أو استنفادها. من حقّ كلّ الشباب أن يغضبوا وأن تخالجهم التخيّلات الانتحارية وأقلّه أن يوقف ذلك المعاناة اليومية من سماع أخبار الفجائع في غزة وفي أنحاء أُخرى.

يقول المعلّقون شرقاً وغرباً إنّ هذه المصائب لا يمكن احتمالها. لكنّهم يقولون في الوقت نفسه إنّه ليس منطقياً أن لا يستطيع أحدٌ في العالم إيقافها بحجّة أنّ نتنياهو يرى مصلحته في استمرار حرب الإبادة هذه.

تبدو إسرائيل متفوّقة وتشنّ حرب إبادة. وقد رفعت السقف إلى الحرب المباشرة مع إيران

لماذا تحشد أميركا أساطيلها؟

يقول المعلّقون أيضاً إنّ الجميع يريدون ويطالبون بوقف الحرب، بمن في ذلك الولايات المتحدة. لكنّ لكلٍّ، وفي طليعتهم الأميركيون، حساباتهم التي لا يمكن تخطّيها. فقد دخل الأميركيون في خضمّ معركة الرئاسة، والمرشّح الجمهوري دونالد ترامب وخصومه لهم حسابات متشابهة، وهي محليّةٌ وداخليّة. فحتى كامالا هاريس المرشّحة الديمقراطية، والتي طالبت نتنياهو عندما اجتمع بها بوقف الحرب، عادت لتكرّر أنّها تريد ضمان أمن إسرائيل. وأمن إسرائيل هذا لا حدود لتداعياته، وإلّا فلماذا تحشد الولايات المتحدة بأمرٍ من الرئيس جو بايدن بالطبع، أساطيلها وطائراتها بحجّة دفع الخطر الإيراني عن إسرائيل؟ لا يسأل أحدٌ عن سيادة إيران التي انتُهكت بمقتل إسماعيل هنية على أرضها.

يستغرب معظم الغربيين إقدام حماس على تعيين يحيى السنوار أميناً عامّاً لها. وهو المسؤول عن هجوم طوفان الأقصى. فإذا كان نتنياهو نموذجاً للإجرام حتى في نظر بعض الغربيين وبعض الإسرائيليين، فماذا يقال من جانب هؤلاء المستنكرين عن صيرورة يحيى السنوار زعيماً للجانب الآخر الذي بادر إلى هجوم طوفان الأقصى؟ هم يقولون إنّ الصورة صارت متعادلة. إذ لو شعر الطرف المقاتل على الجانب الآخر أنّه ارتكب خطأً أو تسرّع ولم يحسن تقدير العواقب لما بادر إلى ترفيع السنوار إلى رتبة الأمين العامّ اعترافاً وفخراً. والأهمُّ من ذلك الإصرار بهذه الطريقة ومن جانبهم على استمرار الحرب.

يقول المعلّقون أيضاً إنّ الجميع يريدون ويطالبون بوقف الحرب، بمن في ذلك الولايات المتحدة. لكنّ لكلٍّ، وفي طليعتهم الأميركيون، حساباتهم التي لا يمكن تخطّيها

لكنّ الاحتمال الآخر الوارد أنّ مجيء السنوار على رأس الحركة حدث نتيجة الفظائع الإسرائيلية. الإسرائيليون اعتبروا أنّهم يواجهون تهديداً وجودياً، ولذلك دفع الأميركيون بأساطيلهم إلى المنطقة. وقد كان بوسعهم اعتبار أنّ اغتيال إسماعيل هنية يستدعي بالدرجة الأولى وقف الحرب وليس الاستمرار في دعم استمرار هذا الجحيم. هي حساباتٌ يصير بمقتضاها أنّه لا يجوز أن يشعر الآخرون بالتهديد الوجودي. فالأمن الإسرائيلي المطلق هو فوق كلّ اعتبار. فحتى الرئيس بوتين أرسل مدير أمنه القومي لينهى الإيرانيين عن التصعيد. ولا نعرف إذا كان قد فعل الشيء نفسه أو أدلى بالنصيحة نفسها لنتنياهو!

العرب غير قادرين على التأثير

جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وأنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، عبّرا عن ارتياعهما. إنّما ماذا بعد الارتياع؟ هل أوقفت دولةٌ أوروبيةٌ كبرى مساعداتها العسكرية لإسرائيل؟

كلّهم معنيون الآن بعدم التصعيد أكثر من اهتمامهم أو قدرتهم على وقف الحرب.

يتبختر المبعوثون الأوروبيون في شوارع بيروت. وهمُّهم أيضاً عدم التصعيد. بل إنّ الفرنسيين لا يهتمّون بغير ذلك منذ شهور

يتبختر المبعوثون الأوروبيون في شوارع بيروت. وهمُّهم أيضاً عدم التصعيد. بل إنّ الفرنسيين لا يهتمّون بغير ذلك منذ شهور. وحجّتهم أنّ التصعيد سيعود بالوبال على لبنان. وهم يقولون في الخفاء: هل كان من الضروري أن يتدخّل الحزب في الحرب فيخسر هذه الخسائر الكبرى دون أن يؤثّر تدخّله في إيقاف الحرب أو تخفيف وقعها على غزة وحماس؟

لننظر إلى الجانب العربي الذي أكثرت حماس كما أكثرت السلطة الفلسطينية من الاستغاثة به في الأسابيع الأخيرة. يبدو العرب بالفعل غير قادرين على التأثير. وممّا لا شكّ فيه أنّه ليس هناك مسؤول عربي، بغضّ النظر عن طبيعة علاقاته بحماس أو بالسلطة، يريد أن تستمرّ المأساة. وقد قال مسؤولٌ عربي إنّ الأميركيين لو أرادوا فعلاً وقف الحرب لهدّدوا إسرائيل بوقف بعض الأسلحة مثلاً، أو لم يرسلوا هذه الحشود بعد اغتيال إسماعيل هنية. وإلّا فما معنى كلام وزير خارجية أميركا أنتوني بلينكن اليومي عن ضرورة وقف القتال ما دام لا يفكر بالضغط مع رئيسه على مسؤولي الكيان الإسرائيلي بأيّ شكل، لا بل إنّ بعض المسؤولين الأميركيين يقولون إنّه إذا ردّ الإيرانيون فقد يضربون إيران بأنفسهم؟!

إنّ الذي ينبغي الاهتمام به اليوم وغداً هذه الموجات المتصاعدة من الغليان في الأوساط العربية. وهي موجاتٌ تهدّد الاستقرار في الدول العربية

أين النّزاهة الأميركيّة المُدّعاة؟

طوال العقود الماضية كانت التصريحات العربية تتوافق على أنّ الكيان الصهيوني هو صنيعةٌ للغرب ولأميركا. بينما كان الأميركيون يعتبرون أنفسهم وسطاء نزيهين. فأين هي النزاهة في موقفهم من حرب الإبادة في غزة؟ لقد بلغ من ثقة الكيان بنفسه وسلاحه أن يقول إنّ باستطاعته مقاتلة الجميع بمفرده وبدون الحاجة إلى دعم أميركي. والجميع يعلمون وأوّلهم الأميركيون أنّ هذا الكلام غير صحيح على الإطلاق.

إنّ الذي ينبغي الاهتمام به اليوم وغداً هذه الموجات المتصاعدة من الغليان في الأوساط العربية. وهي موجاتٌ تهدّد الاستقرار في الدول العربية. وهذا ظاهرٌ على وجه الخصوص في الضفة الغربية والقدس ولبنان والأردن. هناك روحاً انتحاريةً تتحرّك على أوسع مدى. وهي الروح التي تهدّد الحكومات ولا تهدّد إسرائيل. وشئنا أو أبينا فإنّ تحرّشات الحزب والحوثيين صارت تحظى بالاستحسان في بعض أوساط الجمهور. وستكون لذلك آثاره على الاستقرار كما سبق القول.

القوى الإسلاميّة في السّاحة

هناك القوى الإسلامية التي لا ترغب في المشاركة. لكنّها تحسب حسابات كثيرة لجهة الإفادة من أهوال الحرب في استعادة الشعبية التي فقدت وهجها بعد تأجّجها خلال حركات التغيير. وما أفاد المتطرّفون العنيفون حتى الآن من أهوال الحرب من أجل العودة للساحات. لكنّهم سيفعلون بالتأكيد، على الرغم من معرفتنا بحرصهم على عدم “الاشتباك” مع إسرائيل منذ زمن.

وسط هذه الظروف القاسية والمحيطة لا تفيد دعوات الاعتدال والإصلاح وعدم التصادم مع الدول الوطنية

وسط هذه الظروف القاسية والمحيطة لا تفيد دعوات الاعتدال والإصلاح وعدم التصادم مع الدول الوطنية. بل إنّ بعض الحزبيين صاروا يتّهمون دعاة السلامة والسلام بأنّهم يطعنون “المقاومة” في الظهر.

هكذا تضجّ هذه الكلمة بالشكوى من أميركا وبالشكوى من عجز الأوروبيين والعرب عن التأثير لوقف حرب الإبادة. وعلى الجانب الآخر هناك هوائج الغضب من جانب الشبّان، وحسابات الربح الشعبي من جانب الإخوان. وهذه أمور لا تبعث على الأمل، ولا تُعين على الهدوء للتفكير في البدائل بعد الحروب المتكرّرة التي كانت لها دائماً نتائج مأساوية.

لننظر في الختام في مفارقات طرفَي الحرب أو أطرافها. الحكومة الإسرائيلية تؤكّد على حقّها في الدفاع عن نفسها وشعبها. لكنّها عندما تهاجم الدول في عقر دارها تنكر عليها حقّ الدفاع والردّ، والعجيب أنّ الأميركيين والأوروبيين يوافقونها على ذلك.

نصرالله يفتدي إيران

المفارقة من جانب فريق الممانعة ووحدة الساحات أن يضع الحزب نفسه في واجهة المواجهة ويقول حسن نصر الله إنّه ليس من الضروري أو من الواجب أن تشنّ إيران الحرب للدفاع، وتستطيع المقاومة في لبنان القيام بذلك.

رفع الإسرائيليون التحدّي، وبدلاً من طلب وساطة إيران لتخفيف تحرّشات الميليشيات هاجموا إيران ذاتها ووضعوها في إحراج كبيرٍ

لهذا أنشأت إيران هذه الميليشيات ورعتها على مدى عقود. وبواسطتها احتلّت أربع عواصم عربية. لكنّ حسابات الحقل غير حسابات البيدر. فقد هاجمت إسرائيل وكلاء إيران دائماً، لكنّها هاجمت أخيراً إيران نفسها. وهنا المأزق: هل تدافع إيران عن نفسها وقد قال مسؤولون ثوريون دائماً إنّ إيران ستزيل إسرائيل من الوجود؟ أو تكتفي بالحزب والحوثي والحشد الشعبي والميليشيات السنّية المتحمّسة؟

رفع الإسرائيليون التحدّي، وبدلاً من طلب وساطة إيران لتخفيف تحرّشات الميليشيات هاجموا إيران ذاتها ووضعوها في إحراج كبيرٍ. وهو ما دفع إلى أن يحاول نصر الله وحتى الحوثي التبرّع بالقتال نيابةً عنها كما حصل دائماً من قبل: “جيناك يا عبد المعين تعيننا، وجدناك يا عبد المعين تتعان”!

إقرأ أيضاً: هل هناك يوم تالٍ؟؟

أكبر الخاسرين هم الفلسطينيون واللبنانيون والعرب من ورائهم في المذابح الكبرى، ومصالحهم الكبرى في البرّ والبحر. وأكبر الرابحين فريقان:

– فريق نتنياهو الذي يعلن تفوّقه بدون تردّد.

– والولايات المتحدة التي عادت وحيدةً في السيطرة على المشهد بالبرّ والبحر والجوّ في الشرق الأوسط. ولا ندري أين وأين أيضاً.

الحرب مهولة. لكن لكلّ فريقٍ حساباته بغضّ النظر عن أهوال القتل والتدمير!

 

لمتابعة الكاتب على X:

@RidwanAlsayyid

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…