في السابع عشر من حزيران الفائت، انقضت خمس سنوات على إقرار الكونغرس الأميركي قانون “قيصر” القاضي بحماية المدنيين في سوريا وتشديد الحصار الاقتصادي على نظامها. وحتى الآن التزمت إدارة الرئيس جو بايدن الصمت حيال العمل بهذا “القانون” الذي ينتهي مفعوله بعد انتهاء مدّة صلاحيّته القابلة للتجديد. ولم يصدر عنها ما يشير إلى نيّتها تمديد العمل به أو إصدار حزمة بديلة من الإجراءات العقابية أو وقفه نهائياً.
هذان الصمت وعدم الوضوح دفعا إلى التساؤل: هل صار “قيصر” خارج الخدمة الفعليّة والعمليّة، الأمر الذي يحرّر النظام السوري ممّا يفترض أنّها أقسى عقوبات تعرّض لها، ويتيح له تشريع أبوابه لإعادة التطبيع معه؟ أم تحتاج الإدارة الأميركية الحالية إلى تبريد الأجواء في الشرق الأوسط تمهيداً لإنضاج تسوية كبرى في المنطقة تشمل سوريا، وتالياً يعني هذا أنّ القرار لم يُتّخذ بعد بوقف العمل بهذا القانون، بل تجميده لجلاء ما ستؤول إليه التطوّرات في المنطقة، أو إلى ما قد تصل إليه المشاورات في حال حصولها فوق الطاولة أو تحتها؟
في السابع عشر من حزيران الفائت، انقضت خمس سنوات على إقرار الكونغرس الأميركي قانون “قيصر” القاضي بحماية المدنيين في سوريا وتشديد الحصار الاقتصادي على نظامها
لا تمديد ولا تجديد للقانون؟
اللافت أنّه لا توجد حتى الآن أيّ تحرّكات في المحافل الاشتراعية الأميركية تشير إلى نيّة التمديد أو التجديد، ذلك أنّ التحضير لتمديد “القوانين” الأميركية المماثلة لـ”قيصر” يحتاج إلى جهد ووقت كبيرين. فالقانون نفسه احتاج إلى خمس سنوات من العمل المتواصل قبل إقراره في الكونغرس عام 2019، ثمّ وقّعه الرئيس السابق دونالد ترامب عام 2020.
ما يعزّز فرضية “التبريد” و”التجميد” هو اعتراض البيت الأبيض علناً على قانون “مناهضة التطبيع مع دمشق” في أواخر شباط الماضي، على الرغم من إقراره بغالبية أعضاء الكونغرس، الأمر الذي يؤكّد رغبة إدارة بايدن في تفعيل سلاح العقوبات ضدّ سوريا، أو تركه في “مساحة غامضة” في الوقت الراهن وجعله ورقة للمقايضة أو البيع والشراء في أيّ مفاوضات حالية أو مقبلة.
اعتبر مشرّعون أنّ وقف تنفيذ هذا القرار هو بداية التحوّل الأميركي في الملفّ. وهو أيضاً إبطال غير مباشر لمفعول “قانون قيصر”. من شأن هذا القانون في حال إقراره أن يطيل مدّة “قانون قيصر” حتى 31 كانون الأول 2032، وأن يوسّع العقوبات التي يجب على الإدارة فرضها لتشمل التعامل بالممتلكات التي صادرها النظام أو استولى عليها.
اللافت أنّه لا توجد حتى الآن أيّ تحرّكات في المحافل الاشتراعية الأميركية تشير إلى نيّة التمديد أو التجديد
الكونغرس سيضغط لسحب القانون
نقلت “مصادر صحافية” عن مسؤول السياسات في “التحالف الأميركي من أجل سوريا”، السوريّ المعارض محمد علاء غانم، أنّ البيت الأبيض هدّد الكونغرس بوقف كلّ المفاوضات المتعلّقة بالمساعدات لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان وحظر تطبيق “تيك توك” والعقوبات على إيران إذا لم يتمّ سحب مشروع القانون ضدّ النظام السوري.
كتبت صحيفة “واشنطن بوست” أنّ “السياسة الرسمية لإدارة بايدن تتمثّل في معارضة التطبيع مع الأسد، لا سيما من خلال العقوبات، حتى يتوقّف عن المذبحة، لكنّها وراء الكواليس تقوم بتخفيف هذا الضغط بهدوء وعن عمد، وفقاً للمشرّعين في كلا الحزبين والجماعات السورية الأميركية”.
“قبّة باط” لإردوغان.. و”دفعة على الحساب”؟
في سياق متّصل تتقاطع أنباء عن وجود “قبّة باط” أميركية أتاحت لتركيا الانفتاح على فرص إعادة تفعيل العلاقات الثنائية مع سوريا وعودتها إلى ما كانت عليه قبل 2011. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بعض الدول الخليجية وأوّلها الإمارات والسعودية، التي تتحاشى اتّخاذ أيّ خطوةٍ على طريق التقارب مع سوريا من دون غطاءٍ أميركي. في حين أنّ واشنطن تترك لنفسها مساحة للمناورة السياسية في الظروف الراهنة في انتظار جلاء صورة الوضع، سواء لتخفيف هذا الحصار أو للمضيّ في تشديده، إذا اقتضت المصلحة الأميركية ذلك.
نقلت “مصادر صحافية” عن المعارض محمد علاء غانم، أنّ البيت الأبيض هدّد الكونغرس بوقف كلّ المفاوضات المتعلّقة بالمساعدات لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان
كما أنّ الدول المطبّعة مع بشّار الأسد، سواء كانت عربية أو غير عربية، تطرح نفسها وسيطاً بين إدارة بايدن والنظام السوري. وتسوّق لذلك بوصف التطبيع الوسيلة الفضلى لحلّ الأزمة السورية. وثمة تسريبات صحافية غربية تفيد بأنّ بعض هذه الدول نقلت رسائل للنظام السوري بعدم التحرّك إزاء العدوان الإسرائيلي على غزة، على أن يكافأ مقابل ذلك. وقد تكون عرقلة مشروع قانون مناهضة التطبيع وترك “قانون قيصر” معلّقاً، دفعة على الحساب من هذه المكافأة.
لكنّ بعض المراقبين يستبعد التجميد الكامل لـ”قيصر” للاحتفاظ بورقة ضغط أميركية على النظام لدفعه نحو تقديم تنازلات تحتاج إليها واشنطن أو إبقاء الجمود على حاله. ذلك أنّ المعارضة السورية المسلّحة والمدنية بفعل تشتّتها وخلافاتها وتنوّع انتماءاتها والخوف من تطرّف بعض فصائلها، عجزت عن ذلك ولم تستطع تشكيل مشروع بديل مقبول أو موازن للنظام. وهو ما يضطرّ واشنطن إلى إبقاء سلاح العقوبات الاقتصادية مشهوراً والاحتفاظ بالوجود العسكري المباشر في شرق البلاد للسيطرة على منابع النفط التي تحقّق اكتفاءً ذاتيّاً لسوريا، ومن أجل تقطيع أوصال محور المقاومة الممتدّ من إيران إلى لبنان.
قانون أثرى الأثرياء.. وأفقر الفقراء
للتذكير، فإنّ “قانون قيصر” الذي يستمدّ اسمه من “كود” لمصوّر عسكري سرّب آلاف الصور لضحايا التعذيب في السجون السورية، صيغ كجزء من جهود أميركية للضغط على حكومة دمشق وعزلها دولياً ومعاقبة حلفائها والتضييق على مصادر تمويلها من أجل إجبارها على القبول بالحلّ السياسي وتطبيق القرار الأممي 2254. لكنّه أتى بنتائج معاكسة وكان ضحيّته الأولى الوضع الإنساني للشعب السوري.
بعض المراقبين يستبعد التجميد الكامل لـ”قانون قيصر” للاحتفاظ بورقة ضغط أميركية على النظام لدفعه نحو تقديم تنازلات تحتاج إليها واشنطن أو إبقاء الجمود على حاله
نقل “المرصد السوري لحقوق الإنسان” عن عضو اللجنة الدستورية محمد الصايغ أنّ هذا القانون “أدّى إلى جمود الاقتصاد السوري، وازدياد حالة التضخّم باطّراد، وإلى انخفاض كبير في قيمة الليرة السورية مقارنةً مع الدولار والعملات الأجنبية (…) كما لم تتأثّر به النخبة الحاكمة التي ازدادت ثراءً من خلال استغلال هذا القانون عبر تهريب الموادّ مباشرة أو عبر مورّدين ووسطاء، وهو ما أدّى إلى رفع مذهل للأسعار وعاد بالثراء الفاحش على الطبقة السياسية/الاقتصادية، فضلاً عن استغلال فجوات القانون بعدم حظر توريد الموادّ الغذائية، عبر التركيز على هذا القانون والتضخيم الإعلامي له، وهو ما جعل أسعار الموادّ الغذائية فلكيّة، وذهب ناتج ربحها إلى جيوب النخبة السياسية/الاقتصادية على حساب الطبقات الفقيرة التي كانت فعلاً الضحيّة الأولى لقانون قيصر”.
في الوقت نفسه لم يردع قانونُ “قيصر” النظامَ، الذي يفترض أنّه محاصَر ومعاقَب، عن العودة إلى الحاضنة الدولية قبل العربية وإعادة الروح إلى شرايينه الاقتصادية والدبلوماسية وإطلاق صناعات “كبتاغونيّة” هائلة وتكديس الثروات الماليّة لكباره والمحيطين بهم والأثرياء الجدد بطرق معظمها ملتوية وغير مشروعة.
إقرأ أيضاً: وجهاء “كاليه”: التضحية… بلا موتٍ ولا نصرٍ
قطار” قيصر” انطلق قبل أوكرانيا وغزة. وما بعد الحربين ليس كما قبلهما. خطوط السكك تتغيّر والسياسات والمصالح تتغيّر. لكن يبقى عليه انتظار محطّة الانتخابات الأميركية، ذلك أنّ “صاحب القانون” هو ترامب، المرشّح الأوفر حظّاً في الاستحقاق المقبل، الذي لديه سياستان نقيضتان مع أقوى لاعبين مؤثّرين في الشأن السوري: إيران وروسيا. وهو ما قد يجعل من سوريا ساحة صراع جديدة مع الأولى. لكنّه أيضاً قد يجعلها ساحة التقاء مع الثانية… فأين سيكون موقع الأسد في الحالتين؟