“كن صديقي… ليس في الأمر انتقاص للرجولة
غير أنّ الرجل الشرقي لا يرضى بدور غير أدوار البطولة
فلماذا تخلط الأشياء خلطاً ساذجاً؟ تدّعي العشق وما أنت العشيق”.
سعاد الصباح
في متحف أوغست رودان في باريس، تتصدّر العروض منحوتة مذهلة لستّة رجال يسيرون إلى مصيرهم المحتوم والمحكوم بالموت. أهميّة المنحوتة هي الانفعالات الخاصة بكلّ من المتشاركين في التضحية بالذات من أجل إنقاذ مدينتهم، ويشمل ذلك تقاطيع قسمات الوجه وانحناءات الجسم وإشارات الأيدي لرجال في أعمار متفاوتة يذهبون بقرار منهم لوقف موت سكّان المدينة جوعاً، من خلال الموت بدلاً عنهم.
مدينة كاليه سقطت بين حجرَي رحى الحرب الطويلة بين ملكَي إنكلترا وفرنسا، أثناء ما سمّي حرب المئة عام، ذات الخلفيّات الدينية كأداة، والأطماع الملكيّة كأساس. المدينة موجودة على شاطئ بحر المانش من جهة ما هو فرنسا اليوم. بحر المانش هو هذا الممرّ المائي الذي يطيب للإنغلو-ساكسونيين تسميته بـ”القناة الإنكليزية”.
سنة 1346، حاصر المدينة ملك إنكلترا إدوارد الثالث بعد انتصاره على الفرنسيين في معركة كريسي، فأمر ملك فرنسا فيليب السادس أهل المدينة بالصمود في وجه المعتدين بأيّ ثمن. صمدت المدينة أمام حصار دام أحد عشر شهراً، ولم يأتِ فيليب لينقذ سكّانها. ولم يقبل إدوارد بفكّ الحصار إلا إن أعلنت المدينة استسلامها، وحتى حينها قد لا ينجو السكّان من العقاب.
التضحية… دون افتخار بالبطولة
خرج المتطوّعون للتضحية إلى باب المدينة المنهكة واليائسة، وأوجَهَهُم يحمل مفتاح المدينة. وهذه كانت اللحظة التي خلّدها العبقري رودان من خلال إبراز التعابير الجسدية النابضة بالحياة والموت معاً، عندما يمتزج الحزن والخوف والانكسار بالواجب والبطولة والشجاعة. لم يقدّم رودان أيّاً من الوجهاء على الآخر، ولم يضعهم على منصّة عالية لإبراز التفوّق على البشر الآخرين، بل تركهم على الأرض ليقول إنّهم بشر يمكن لأيّ من الناس أن يتشبّه بأحدهم. لكنّه نحتهم أكبر من الحجم العاديّ للبشر، حتى يجبر المشاهد على النظر إلى أعلى لمراقبة تقاسيم الوجوه، وجعل أيديهم تلامس وجوه الناس. لكنّ أرجلهم، كمعظم منحوتات رودان، كانت أكثر ضخامة من المتوقّع، ربّما ليبرز العلاقة الحميمة مع التراب والأرض، والحاجة الدائمة إلى ثبات الأرجل ليتمكّنوا من الموت وهم واقفون.
رفض رودان إبراز أيّ من الوجهاء على حساب الآخر، ورفض أيضاً إدخال عنصر تمجيد التضحية بالفخر والاعتزاز بها
رفض رودان إبراز أيّ من الوجهاء على حساب الآخر، ورفض أيضاً إدخال عنصر تمجيد التضحية بالفخر والاعتزاز بها، لكنّه مجّد اللحظة بالألم واليأس مجتمعين والقبول بالقدر الموجع الذي يعظّم من قيمة التضحية لأنّها تأتي من دون افتخار بدور البطولة أو السعي إليها. بل لأنّها تأتي على الرغم من الثمن الذي يجب دفعه، أي أنّ المضحّين لا يشتهون الموت، لكنّهم يقبلون عليه مرغمين من أجل الآخرين، مع حبّهم للحياة. وهذا بعكس الراغبين بالموت لأنّهم يسعون إلى مكاسب ما بعد الموت، على الأقلّ كما يعتقدون.
النجاة… بالاستسلام؟
تقول الرواية إنّ زوجة الملك إدوارد تدخّلت لدى زوجها للعفو عن حياة وجهاء كاليه، لاعتقادها أنّ قتلهم سيكون فألاً سيّئاً على حملها بالوليد الملكيّ. هكذا نجا من بقي في المدينة من الموت، لكن ليس برفع رايات النصر، ولا باختباء الوجهاء المقتدرين وراء الحشود المنكوبة والجائعة، بل بقبول من هم في موقع المسؤولية بالخروج لتحمّل تبعات كونهم مسؤولين، بدل الاختباء وراء الأسوار التي تؤوي من بقي من بشر أحياء.
لست أدري إن كانت هذه القضيّة خطرت على بال أيّ وجيه عربي وقعت مدينته أو بلده تحت حصار مميت، مهما كلّف الأمر من ضحايا على الطريق. فلنأخذ مثلاً ما حصل في سورية على مدى العقد الماضي، وبعدما تبيّن أنّ الحرب هناك طويلة ومدمّرة ما بقي بشّار في الحكم.
التعاطف لن يظهر إلا لأب يندب أبناءه ويرثيهم، مع الألم الذي ينخر القلب، أو لأمّ تبحث عن فلذات كبدها بين حطام ما كان كوخاً أو شبه منزل كانت ترضعهم تحته
هل كان من الممكن حصر الضرر لو قرّر من ورث الحكم عن والده أن يتنحّى عن الحكم، معزّزاً مكرّماً، ليفسح المجال لحلول مجدية؟
هل كان من الممكن تجنيب العراق الدمار المستدام لو قرّر صدام حسين التنحّي عندما صار الحكم بحكم الساقط؟ أو لو قرّر الانسحاب من الكويت قبل انطلاق الجيوش المتحالفة، بين شقيق وعدوّ، لهزيمة جيش العراق الذي كان لزمن أمل العرب بالنصر المبين على إسرائيل؟ والشيء ذاته كان يمكن أن يقال عن معمّر القذافي وحسني مبارك وزين العابدين بن علي… وما يمكن أن نذكره اليوم عن الأشقّاء المتحاربين بأجساد السودانيين بين جيش ودعم سريع؟ فلو قرّر الزعيمان العظيمان الانسحاب من ساحة المعركة والزهد بتلويح عصا القيادة وترك الحكم للمدنيين، أما كان من الممكن تجنيب دارفور والخرطوم والفاشر خطر الموت تحت وابل القذائف، أو جوعاً تحت خيام رثّة، أو تحت الشمس الحارقة في العراء، أو من ذلّ اللجوء عند الشقيق والغريب؟
إقرأ أيضاً: من “الجنرال ثلج” إلى “الجنرال صيف”
لم نفهم بعد أن لا أحد يتعاطف مع من يرفع رايات النصر الوهميّ على الركام الممزوج بدماء الضحايا. فالمنتصر، ولو كذباً، لا يحتاج إلى التعاطف ولا التأييد، فيكفيه النصر لوحده. لكنّ التعاطف لن يظهر إلا لأب يندب أبناءه ويرثيهم، مع الألم الذي ينخر القلب، أو لأمّ تبحث عن فلذات كبدها بين حطام ما كان كوخاً أو شبه منزل كانت ترضعهم تحته، أو لبنت تساعد منقذيها لرفع الحجارة عن جسمها الغضّ وهي تقول والغبار يكسو وجهها النحيل “الحمد لله أنا بخير”.
أسأل نفسي عندها ماذا لو تقدّم الشجعان، بعد البطولة الأسطورية التي نسجوها، ليفعلوا مثلما فعل وجهاء كاليه لحماية من بقي من البشر؟
لمتابعة الكاتب على X: