يبحث بنيامين نتنياهو عن ضربة عسكرية مفعولها أمنيّ ومعنوي كبير مثل اغتيال محمد الضيف لتعوّض له الموافقة المحتملة على الهدنة. يوظّف محاولته شطب قائد كتائب القسام في غزّة على حدّين، فيبرّر له مواصلة الحرب “الأبدية” على غزة، ومن جهة ثانية يعينه على تسويق الموافقة على وقف إطلاق النار، إذا اضطرّته الضغوط الأميركية إلى ذلك. هذا مع أنّ ملابسات محاولة اغتيال حليفه في واشنطن دونالد ترامب، عزّزت من إمكانيات فوز الأخير في السباق الرئاسي، وهو ما يساعد نتنياهو على مقاومة ضغوط جو بايدن كي يوقف الحرب.
معظم الحروب الإسرائيلية السابقة في غزة كانت تنتهي باغتيال أحد قادة الميدانيّين لـ”حماس”، أو باستهداف منزل لأحد قادة الصفّ الأوّل. في كلّ هذه الحروب كانت الضغوط لإنهاء القتال تدفع الجيش الإسرائيلي إلى البحث عن ضربة تثبت أنّ الكلمة الأخيرة له. يروي المتابعون أنّ الإسرائيليين كانوا يبلغون الوسطاء لوقف النار، تحديداً المصريين، بأنّهم سيدمّرون منزل فلان كي تطلب القاهرة منه مغادرته.
يبحث بنيامين نتنياهو عن ضربة عسكرية مفعولها أمنيّ ومعنوي كبير مثل اغتيال محمد الضيف لتعوّض له الموافقة المحتملة على الهدنة.
استثمار فشل اغتيال الضّيف للتغطية على المجزرة
في حرب إسرائيل الراهنة لم يعد هذا “البروتوكول” ساري المفعول. لم تعد قائمةً سياسة نتنياهو المتمثّلة في الإبقاء على إدارة “حماس” للقطاع تكريساً للانقسام الفلسطيني إثر “طوفان الأقصى” على الرغم من استفادته منه. بات الهدف القضاء على الحركة، كما يكرّر نتنياهو، على الرغم من خلافه مع قادة الجيش وواشنطن حول استحالة ذلك. بل إنّ بعض وقائع حرب العصابات القائمة منذ 9 أشهر أثبتت أنّ عمليات المقاومة تنجح في اصطياد دوريّة أو دبّابة.
نتنياهو، بقدر مواصلته مناوراته في مفاوضات وقف إطلاق النار (المطلوب من بايدن) لتأجيله وتأخيره، يوظّف الاغتيالات في عدّة أمور:
– يواجه انتقادات اليمين المتطرّف في حكومته، الذي يلومه على خوضه مفاوضات وقف الحرب، بتحقيق إنجاز عسكري عبر شطب قيادي فلسطيني. فوزير المالية بتسلئيل سموتريتش وصف المفاوضات الدائرة حالياً بأنّها غير شرعية، وأكّد أنّه لن يوافق عليها ولو اضطرّ إلى إنهاء مسيرته السياسية. وهذا تلويح بمغادرة الحكومة وبالتالي إسقاطها.
– يبرّر بإنجاز عسكري أو أمنيّ كهذا، في حال نجح، نهجه الذي استخدمه في كلّ مراحل التفاوض، أي مواصلة الضغط العسكري على “حماس” كي تتنازل.
بعد محاولة اغتيال دونالد ترامب، لم يغب عمّن يراقبون المفاعيل المتدحرجة لأحداث الميدان، ترقّب كيفية إفادة نتنياهو من فشل محاولة اغتياله
– بينما يتعرّض لحملات شعبية وسياسية من معارضيه لتأخيره صفقة الإفراج عن الرهائن، يشهر بوجههم إنجازاً أمنيّاً وعسكرياً. فحتى رئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي يعتبر إنجاز الصفقة أمراً ملحّاً، مقابل شروط نتنياهو الجديدة. وبالموازاة تعرّض نتنياهو لانتقادات صاخبة من الوفد الإسرائيلي المفاوض لوضعه شروطاً تعيق إبرامها في اجتماعهم به ليل الأحد.
رهان على انسحاب الحركة من المفاوضات
– راهن نتنياهو على أن تؤدّي المجزرة التي رافقت محاولة اغتيال الضيف إلى انسحاب “حماس” من المفاوضات لوقف النار. إلا أنّ الوسطاء، ولا سيما المصريين، أحبطوا تلك المراهنة فنفت الحركة أنباءً عن وقفها التفاوض.
حتى الفشل في تنفيذ اغتيال محمد الضيف وقائد كتيبة خان يونس رافع سلامة يسعى نتنياهو إلى توظيفه. فالعملية التي أدّت إلى قصف مخيّم للنازحين وسقوط 400 نازح فلسطيني بين شهيد وجريح جرى استثمارها في مكان آخر. توسّع الإعلام الإسرائيلي في بثّ المعلومات عن خطأ الضيف بمواعدة سلامة خارج الأنفاق فوق الأرض للتغطية على أنباء وصور المجزرة. لم ينزعج نتنياهو ولا قادة الجيش من إشاعة الأخبار عن فشل ملاحقة الضيف ولا عن الأخذ والردّ حول صحّة إصابته أو عدم صحّتها. مفعول ذلك كان إلهاء الرأي العامّ الخارجي والغربي، خصوصاً عن مشاهد الإبادة الجماعية الناتجة عن استهداف المخيم. ففي اللعبة الإعلامية يحجب إغراق الفضاء الإعلامي بقضية ما هو أخطر منها. وهذا توظيف يتقنه العقل الإسرائيلي، فتتواصل خطّة جعل غزة غير قابلة للحياة باستهداف المدنيين في المناطق التي يكون الجيش طلب منهم اللجوء إليها.
التناوب على توظيف “المشاغلة”
الأمر لا يتوقّف على استثمار الصخب حول الاغتيالات التي يتوعّد المستويان السياسي والعسكري بمواصلتها.
توظيف إغراق وسائل الإعلام والدوائر السياسية بالضجيج حول وقائع أحد ميادين الحرب يسمح، موضوعياً، بخفض الاهتمام بممارسات في ميدان آخر:
1- هكذا طغى على مدى ثلاثة أسابيع الحديث عن احتمالات ومخاطر الحرب بين إسرائيل والحزب في لبنان على تعمّق الجيش في رفح. بالموازاة توسّع الجيش في المدينة الغزّية خلافاً لمطلب واشنطن إبقاء التوغّل فيها محدوداً في أطرافها. إلا أنّ الأمر انتهى، حتى إشعار آخر، بإعلان الجيش أنّه منهك ولن يخوض حرباً على جبهة الشمال. هكذا تحوّلت حرب المساندة والمشاغلة التي يخوضها الحزب انطلاقاً من الجنوب إلى “مشاغلة” إسرائيلية بمخاطر الجبهة الشمالية عمّا يرتكبه جيش الاحتلال في غزة. وبهذه الطريقة يواصل تدمير وتجريف ما بقي من أحياء وشوارع في غزة، والقضاء على بقايا البنية التحتية. وفي الوقت نفسه يتّفق الجيش ونتنياهو على “مشاغلة” نازحي الشمال بنجاح اغتيالات قادة الحزب مقابل الفشل في مواجهة مسيّرات الأخير.
راهن نتنياهو على أن تؤدّي المجزرة التي رافقت محاولة اغتيال الضيف إلى انسحاب “حماس” من المفاوضات لوقف النار. إلا أنّ الوسطاء، ولا سيما المصريين، أحبطوا تلك المراهنة
2- يحجب استمرار القصف الذي يتولّاه الحوثيون في البحرين الأحمر والعربي للسفن التجارية، أو العسكرية البريطانية والأميركية، الفظاعات المتدرّجة التي يمارسها الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية. يتراجع بذلك الادّعاء الغربي اللفظي برفض التغيير “الأحاديّ الجانب” للواقع على الأرض في القدس. فالمناطق التي تتمّ مصادرتها لأجل بناء المزيد من المستوطنات بقرار من الوزير الإسرائيلي إيتامار بن غفير وموافقة نتنياهو، وآخر هذه القرارات ضمّ 12 ألفاً و700 كيلومتر مربّع في مطلع الشهر، تشكّل أكبر عملية ضمّ إلى “أملاك الدولة” منذ 3 عقود. وفي أحيان كثيرة يساعد تركيز الأنظار على فظاعات غزة من أجل الإفادة من طغيانها لدى الرأي العامّ لتمرير بعض الإجراءات في الضفة، التي هي هدف تهجيري استراتيجي من أجل الحؤول دون قيام دولة للفلسطينيين.
باختصار يجري توظيف الأحداث بالتناوب للتغطية على أحدها.
توظيف فشل اغتيال ترامب؟
بعد محاولة اغتيال دونالد ترامب، لم يغب عمّن يراقبون المفاعيل المتدحرجة لأحداث الميدان، ترقّب كيفية إفادة نتنياهو من فشل محاولة اغتياله.
يماطل رئيس الحكومة الإسرائيلية في مفاوضات الهدنة بانتظار جرعة دعم لسياسته عند إلقائه كلمته في الكونغرس في 24 الجاري. ظهور ترامب بمظهر الرئيس القوي وبرباطة الجأش التي تعاطى من خلالها مع استهدافه، أضاف نقاطاً لمصلحته في المنازلة الرئاسية مع بايدن. وهذا التطوّر سيسعى نتنياهو إلى توظيفه في خطّته لمواصلة الحرب. فترامب كان قد لام بايدن لأنّه لا يترك لإسرائيل أن تنجز “مهمّة القضاء على حماس”. المرشّح الجمهوري مع إطلاق يد تل أبيب مقارنة مع بايدن الذي أخذ يراعي الجناح الليبرالي في حزبه، الرافض لاستمرار الحرب.
إقرأ أيضاً: الاغتيالات الرّئاسيّة الأميركيّة.. نجاة 6 ووفاة 4
تشكّل الديناميّة التي ستطبع معركة الرئاسة في أميركا عاملاً مقرّراً في حسابات الحرب والتوظيف في الصراع الدائر حول غزة وتفاعلاته الإقليمية. ولهذا حديث آخر بانتظار ما سيعلنه ترامب. فهل تقرّبه الدعوة إلى وحدة أميركا التي دعا إليها بايدن من نهج الأخير القائم على وقف الحرب في غزة أم يبقى على نهج إطلاق يد تل أبيب؟