مصالحة إردوغان والأسد: موسكو تتهيّأ لعهد ترامب؟

مدة القراءة 8 د

خلط الأوراق الذي تنتجه الحمّى الانتخابية في عدد من الدول يفرض إعادة النظر بحسابات الكثير من القادة في الإقليم والعالم. من انتخابات البرلمان الأوروبي إلى بريطانيا، وبعدها إيران، وصولاً إلى فرنسا، ترتسم خريطة جديدة تنعكس على الأزمات الملتهبة، ومنها الحرب على غزة حتماً.

تفرض الانتخابات الرئاسية الأميركية في 6 تشرين الثاني المقبل على اللاعبين الإقليميين حسابات تشمل إمكان عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة. بين مضيّ جو بايدن بترشيحه أو انسحابه، يقيس حكّام بعض الدول خطواتهم على وقع ما هو آتٍ في واشنطن. ينطبق ذلك على جهود روسيا لتحقيق المصالحة بين الرئيسين التركي رجب طيب إردوغان والسوري بشار الأسد.

 

يُنقَلُ عن بعض رموز حزب “العدالة والتنمية” أنّه فوجئ باندفاعة رجب طيب إردوغان حيال المصالحة مع الرئيس السوري بشار الأسد. وحسب أوساط تتابع سياسة أنقرة في سوريا فإنّ موالين لإردوغان وخصوماً له استغربوا إقباله بحماسة على هذا التوجّه. فهو قبل وبعد لقائه الرئيس فلاديمير بوتين أمل عودة العلاقات مع دمشق “إلى ما كانت عليه” (قبل الثورة السورية). وجاء ذلك على هامش قمّة دول منظمة شانغهاي في آستانا في 3 و4 الجاري. وتساءل البعض كيف يستدير إردوغان فجأة بعدما ورّط تركيا بخصومة مع الأسد واستقبل المعارضة ودعمها عسكرياً؟ فهو استضاف 3 ملايين ونصف مليون لاجئ سوري، وجنّس بعضهم، فشكّل كلّ ذلك موضوع خلاف مع سائر القوى السياسية المعارضة. وأخذ تبرّم الشارع التركي من وجودهم يتسبّب بحوادث أمنيّة ودموية وعنصرية كما حصل في محافظة قيصري.

تختلط أسباب هذا الاستغراب مع سوابق العلاقة بين القيادتين في دمشق وتركيا. وهذا ما دفع إلى العودة إلى ظروف التغيير في استعدادات الجانبين:

تختلط أسباب هذا الاستغراب مع سوابق العلاقة بين القيادتين في دمشق وتركيا وهذا ما دفع إلى العودة إلى ظروف التغيير في استعدادات الجانبين

فشل الجهود الروسيّة العام الماضي

– إنّ الجهود التي بدأتها موسكو أواخر عام 2022 وامتدّت خلال 2023 لتحقيق تقارب بين الدولتين أُجهِضت من الجانب السوري. فبعد نجاح رعايتها اجتماعات على المستوى الأمنيّ ثمّ على مستوى وزيرَي الدفاع والخارجية، فشلت في جمع الرئيسين. خذلها الأسد قبل أكثر من سنة برفضه استضافة الرئيس فلاديمير بوتين قمّة بينه وبين إردوغان. والأخير فقدَ الأمل، ورفض اشتراط الأسد الانسحاب التركي من شمال سوريا لتحسين العلاقات. وكانت الحجّة التركية أنّ الجيش السوري غير قادر على حفظ أمن الحدود ومحاربة الإرهاب. وغضبت موسكو لتشدّد دمشق، بموازاة انزعاجها من إعاقة النظام أيّ تقدم في الحلّ السياسي مع المعارضة السورية.

انزعاج طهران من جهود موسكو السّابقة

– انزعجت إيران في حينها من جهود التقارب بين دمشق وأنقرة خشية تحقيقه على حساب نفوذها الأمنيّ والعسكري والاقتصادي. فمفاعيل المصالحة توجب ترتيبات تتناول مناطق سوريّة لطهران وجود عسكري ومصالح اقتصادية فيها. وتطلّب تبديد الهواجس الإيرانية اجتماعات مع الجانب السوري ثمّ لقاءات تركية إيرانية، وإيرانية روسية. وفيما جرى الحديث عن جهود رباعية، امتداداً لصيغة آستانا التي أدارت المسرح السوري منذ 2019، جرت فرملة المصالحة.

إردوغان

– في المقلب السوري عدّل الأسد لهجته المتشدّدة إزاء هذا الخيار فأكّد الشهر الماضي انفتاح دمشق على المبادرات لتحسين العلاقة مع تركيا. وكان حكّام دمشق راهنوا على فشل إردوغان في تجديد ولايته الرئاسية في انتخابات أيار 2023. وبلغوا حدّ التوهّم أنّ لهم القدرة على التأثير في هذه الانتخابات. وأقنعوا أنفسهم بأنّهم لن يقدّموا المصالحة هديّة كي يستخدمها في كسب أصوات الجمهور التركي المتململ من سياساته في سوريا.

لا يستبعد البعض أن تستفيد دمشق من خيار المصالحة مع إردوغان للتخفيف من الضغط الغربي والعربي عليها كي تأخذ مسافة من إيران

الترقّب لمدى حماسة دمشق لإنجاح المصالحة ما زال قائماً. القيادة السورية تجاوبت مع وساطة عراقية أنتجت لقاءات بين الجانبين التركي والسوري في بغداد، لكنّها لم تستبعد الصعوبات، ومنها أنّها ستشمل إعادة النازحين السوريين في تركيا في وقت لا يملك النظام القدرة على رعاية هذه العودة. فإردوغان وعد في حملته الانتخابية في أيار 2023 أن يعيد مليون نازح سوري إلى بلدهم.

التهيّؤ لمرحلة ترامب والانسحاب الأميركيّ؟

تاريخ المحاولات السابقة الفاشلة لا يحجب أسباباً مهمّة خلف تكرارها:

1- إنّ مرحلة ما بعد حرب غزة الآتية ستفرض ترتيبات إقليمية جديدة. وتتحسّب موسكو صاحبة النفوذ في بلاد الشام لإمكان نجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية. تشترك أنقرة معها في هذا الهاجس. فترامب سيعود إلى خيار سحب القوات الأميركية من سوريا في سياق إعادة تموضع في العراق أيضاً. وهو كان في آخر سنة من ولايته السابقة (2019) قرّر ذلك، لكنّ قيادة الجيش الأميركي ثنته عن الخطوة. فمن سيملأ الفراغ؟ في عهد بايدن تعزّز الوجود العسكري الأميركي. ففي سوريا زهاء 10 قواعد متفرّقة يشغلها قرابة 950 جندياً من القوات الخاصة، وتنتشر في المنطقة الممتدّة شرق نهر الفرات من جنوبِ شرقي سوريا بالقربِ من معبرِ التّنفِ الحدوديّ، إلى الشّمالِ الشّرقيّ.

سيكون على أنقرة بذل جهد مع القيادات المعارضة التي تحتضنها والتي ساءتها حماسة إردوغان الطارئة للمصالحة

ما يهمّ دمشق وأنقرة أنّ المناطق الكردية تتمتّع بحماية أميركية لإدارة ذاتية كردية مستقلّة عن نفوذ النظام والجيش التركي، وتستغلّ حقول النفط والغاز هناك. لأنقرة مصلحة في الاشتراك بالبدائل التي ستتحكّم بمناطق سيطرة الأكراد. واستبقت ذلك بتكرار الحديث عن التدابير لمواجهة “الإرهاب” لأنّها تصنّف حزب العمال الكردستاني في هذه الخانة. لدمشق مصلحة سياسية في استعادة نفوذ النظام شرق الفرات، وأخرى اقتصادية باستعادة السيطرة على آبار النفط التي يستفيد منها الأكراد والأميركيون. وللجانبين، ولموسكو، مصلحة في الحؤول دون اغتنام بقايا “داعش” المنتعش غبّ الطلب الفرصة لاقتطاع أجزاء من مناطق الوجود الأميركي.

تخفيف العبء عن الاقتصاد التّركيّ؟

2- اقتنعت أنقرة بأنّه لا بدّ من انسحاب تدريجي لجيشها من شمال سوريا لأنّ كلفة انتشاره وعملياته منذ 2019 عالية على الاقتصاد المأزوم. هذا فضلاً عن كلفة تسليح ورعاية “الجيش الوطني السوري” الذي شكّلته ويأتمر بقيادة قوّاتها في مناطق واسعة في الشمال والشمال الشرقي تمتدّ في أجزاء من محافظات الرقة وحلب والحسكة. وهذه الكلفة تشمل الإدارة الذاتية في تلك المناطق الممتدّة على مساحة 8,835 كلم مربّع. وفيما أشار إردوغان إلى إعادة أكثر من 600 ألف نازح سوري إلى الشمال، فإنّ عبء تثبيتهم الذي كان يأمل تمويله من أوروبا، ما زال يقع على الاقتصاد التركي.

3- استعادة العلاقة مع دمشق تخفّف على أنقرة خسائر الاقتصاد جرّاء فقدانها طريق الترانزيت عبر دمشق لنقل بضائعها نحو دول الخليج. ارتفاع ثمن النقل عبر البحر وقناة السويس أفقدها القدرة التنافسية في الأسواق الخليجية. وعلى المديَين الأبعد والمتوسط فإنّ استقرار المناطق التي يمكن أن تستعيد الاستقرار بعد الترتيبات الأمنيّة يتيح البدء بتنفيذ خطط إعادة الإعمار. وباستطاعة الشركات التركية لعب دور فيها مع ما تحقّقه من منافع. وهذا يحرّك ولو جزئياً الاقتصاد السوري المنهار.

4- لا يستبعد البعض أن تستفيد دمشق من خيار المصالحة مع إردوغان للتخفيف من الضغط الغربي والعربي عليها كي تأخذ مسافة من إيران.

———–

تبدو هذه التفسيرات لأسباب الاندفاع الروسي والتركي والليونة السورية (الشكلية على الأقلّ) حيال المصالحة بين إردوغان والأسد منطقية وورديّة. وتنتظر خطوات من جانب الأسد كي يوجّه الرئيس التركي له ولبوتين الدعوة إلى أنقرة “في أيّ لحظة”، كما قال إردوغان قبل 3 أيام. إلا أنّ إزالة العوائق تتوقّف على استعداد دمشق لخطوات باتجاه المعارضة السورية.

إقرأ أيضاً: هدنة غزّة: بايدن يسعى للتّعادل مع ترامب بتطويع نتنياهو؟

تعمل موسكو على تهيئة الظروف لهذا الغرض بتواصلها مع بعض أطياف القيادات المقيمة في الخارج. وسيكون على أنقرة بذل جهد مع القيادات المعارضة التي تحتضنها، والتي ساءتها حماسة إردوغان الطارئة للمصالحة. فتطويع قوى المعارضة في إدلب وبعض الشمال يتطلّب جهداً استثنائياً. والمواجهات التي نشأت بين الجيش التركي وبين السوريين في شمال البلد في الأيام الماضية، امتداداً لتعرّض النازحين في مناطق تركية لحملات دموية وعنصرية، تشير إلى صعوبات مهمّة الجانب التركي.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@ChoucairWalid

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…