ما وراء الشّلل السياسيّ: لمستقبل يقوده القطاع الخاصّ

مدة القراءة 11 د

منذ بداية الأزمة الاقتصادية في عام 2019، يعاني لبنان من عدم استقرار ماليّ عميق تفاقم بسبب الجمود السياسي والافتقار إلى إصلاحات ذات مغزى. يستكشف هذا المقال نهجاً مزدوجاً لتعافي لبنان يستفيد من التدخّلات الاقتصادية الفوريّة ومبادرات القطاع الخاص القويّة. تنبثق هذه الضرورة من نمط تاريخي قوبلت فيه المساعدات الدولية الكبيرة والدعوات المتكرّرة إلى الإصلاح بمقاومة مستمرّة من النخبة السياسية في لبنان، وهو ما أدّى إلى الحدّ الأدنى من التغييرات الهيكلية.

 

 

 

يقف لبنان عند منعطف حرج بسبب تصارعه مع أزمة اقتصادية وسياسية تعمّقت على مدى عقود بسبب الافتقار المستمرّ إلى إصلاحات ذات مغزى ونخبة سياسية مقاومة للتغيير. وعلى الرغم من الدعم الماليّ الكبير الذي قدّمه المجتمع الدولي، بدءاً من مؤتمر باريس الأوّل في عام 2001، ومروراً بالعديد من المبادرات اللاحقة، إلا أنّ الإصلاحات الموعودة لم تتحقّق إلى حدّ كبير. بالنظر إلى هذه الخلفيّة من الوعود الحكومية التي لم يتمّ الوفاء بها ومركزية السلطة الماليّة، يفترض بلبنان أن يركّز على استراتيجية التعافي التي ترتكز على مبادرات يقودها القطاع الخاص ومشاركة قويّة مع المغتربين اللبنانيين. ولا توفّر هذه السبل تجاوزاً لأوجه القصور السياسي الراسخة فحسب، بل توفّر أيضاً مساراً مستداماً للإنعاش الاقتصادي والاستقرار.

يقف لبنان عند منعطف حرج بسبب تصارعه مع أزمة اقتصادية وسياسية تعمّقت على مدى عقود

السّياق التّاريخيّ وقضيّة مشاركة القطاع الخاصّ

بدأت ملحمة نضال لبنان من أجل الاستقرار الاقتصادي والإصلاح منذ أكثر من عقدين. كان المؤتمر الدولي لإعادة إعمار لبنان، المعروف أيضاً باسم باريس 1، الذي عُقد في عام 2001، الأوّل من بين عدّة جهود دولية لتعزيز الاقتصاد اللبناني من خلال مساعدات مالية كبيرة بلغت 500 مليون يورو. استمرّت هذه الجهود مع باريس 2 وباريس 3، اللذين حصل فيهما لبنان على التزامات بلغ مجموعها أكثر من 11.8 مليار دولار أميركي على مدى عدّة سنوات. وعلى الرغم من هذه التدفّقات، فإنّ الإصلاحات المتوقّعة في المجالين السياسي والماليّ لم تتحقّق إلى حدّ كبير.

كان هذا النمط من الوعود التي لم يتمّ الوفاء بها واضحاً بشكل صارخ في مركزية السلطة النقدية تحت شخصية واحدة هي حاكم مصرف لبنان، الذي يرأس أيضاً الهيئات التنظيمية الماليّة الرئيسية. لم يواجه هذا التركيز للسلطة تدقيقاً كبيراً، وهو ما سمح للمصالح السياسية الراسخة بالحفاظ على قبضة قوية على الروافع الاقتصادية اللبنانية من دون رقابة أو مساءلة كبيرة.

لقد تمّ اختبار صبر المجتمع الدولي، وبلغ ذروته في مؤتمر سيدر في عام 2018، الذي اشترط مرّة أخرى القيام بمبادرات إصلاح ذات مصداقية من أجل ما يقرب من 11 مليار دولار أميركي من المساعدات. وشدّد المؤتمر على تحوّل حاسم في الاستراتيجية الدولية، معترفاً صراحة برفض النخبة السياسية اللبنانية سنّ إصلاحات من شأنها أن تقلّل من سيطرتها على المجالين السياسي والاقتصادي في البلاد.

كان المؤتمر الدولي لإعادة إعمار لبنان، المعروف باسم باريس 1، الذي عُقد في عام 2001، الأوّل من بين عدّة جهود دولية لتعزيز الاقتصاد اللبناني

الأساس المنطقيّ للمبادرات التي يقودها القطاع الخاصّ

لم يؤدِّ التردّد التاريخي للطبقة السياسية في لبنان في تنفيذ الإصلاحات الضرورية إلى إعاقة التقدّم الاقتصادي فحسب، بل أدّى أيضاً إلى تفاقم نقاط الضعف في هيكله الاقتصادي. وقد أكّد هذا النمط من التقاعس والفرص الضائعة على الحاجة الملحّة إلى استراتيجيات إنعاش بديلة تتجاوز السبل الحكومية التقليدية، التي شابتها عدم الكفاءة والفساد.

وفي هذا السياق، يبرز القطاع الخاص لاعباً محورياً قادراً على تحفيز الاستقرار الاقتصادي والنموّ بشكل مستقلّ عن التأثيرات السياسية. وعلى عكس مبادرات القطاع العامّ، التي غالباً ما تتورّط في الروتين البيروقراطي والمحسوبية السياسية، تسعى مشاريع القطاع الخاصّ عادة إلى تحقيق الكفاءة والربحية، مدفوعة بأهداف واضحة وقابلة للقياس.

الشّراكات بين القطاعين العامّ والخاصّ كمحفّزات للإنعاش الاقتصاديّ

تمثّل الشراكات بين القطاعين العامّ والخاصّ أحد أكثر النُهُج واقعية للتحايل على أوجه القصور في القطاع العامّ مع الاستفادة من نقاط القوّة في القطاع الخاص. ومن خلال الجمع بين الرقابة العامّة وخبرة القطاع الخاص وكفاءته، يمكن للشراكات بين القطاعين العامّ والخاصّ أن تنفّذ بفعّالية مشاريع قد تكون عرضة للتأخير أو سوء الإدارة في إطار عامّ بحت.

على سبيل المثال، في القطاعات الحيوية مثل المرافق والاتصالات والبنية التحتية، يمكن للشراكات بين القطاعين العامّ والخاصّ أن تجلب رأس المال والابتكار اللذين تشتدّ الحاجة إليهما. هذه القطاعات أساسية للاستقرار الاقتصادي والنموّ، وتوفّر العمود الفقري للصناعات والخدمات الأخرى. فعلى سبيل المثال، يمكن أن يؤدّي تحسين البنية التحتية للاتّصالات إلى تعزيز التواصل ودعم نموّ الأعمال والخدمات الرقمية، التي تعتبر حاسمة بالنسبة للاقتصادات الحديثة.

علاوة على ذلك، يمكن للاستثمارات الخاصة في المرافق مثل الكهرباء والمياه أن تحسّن بشكل كبير من جودة وموثوقية هذه الخدمات. إنّ النقص المزمن في الطاقة في لبنان هو شهادة على الحاجة إلى تفكير جديد واستثمار في قطاع الطاقة، ربّما من خلال مشاريع الطاقة المتجدّدة التي يقودها القطاع الخاص. ولا تضمن هذه المبادرات تقديم الخدمات فحسب، بل تعزّز الاستدامة أيضاً.

من خلال خلق فرص عمل جديدة، يمكن لهذه المبادرات أن تخفّف من إحدى القضايا الأكثر إلحاحاً التي تواجه لبنان اليوم: البطالة والعمالة الناقصة

جذب الاستثمار الأجنبيّ وخلق فرص عمل

مبادرات القطاع الخاص بارعة بشكل خاص في جذب الاستثمار الأجنبي. يميل المستثمرون عموماً إلى تخصيص أموال للمشاريع التي تدار وفقاً لمبادئ القطاع الخاص، والتي تعد بمساءلة أوضح وعائد على الاستثمار مقارنة بمشاريع القطاع العام. تجلب هذه الاستثمارات العملات الأجنبية التي تشتدّ الحاجة إليها إلى لبنان، وهو ما يدعم استقرار الليرة اللبنانية ويوفّر الأموال التي يمكن استخدامها لمواجهة التحدّيات الاقتصادية الأخرى.

بالإضافة إلى ذلك، من خلال خلق فرص عمل جديدة، يمكن لهذه المبادرات أن تخفّف من إحدى القضايا الأكثر إلحاحاً التي تواجه لبنان اليوم: البطالة والعمالة الناقصة. ولا يساعد خلق فرص العمل على استقرار دخل الفرد والأسرة فحسب، بل يحفّز أيضاً النموّ الاقتصادي من خلال زيادة الاستهلاك والاستثمار.

الحدّ من الاعتماد على الإرادة السياسيّة المتقلّبة

تتمثّل إحدى أهمّ مزايا المبادرات التي يقودها القطاع الخاص في قدرتها على الحدّ من الاعتماد على الإرادة السياسية للطبقة الحاكمة في لبنان، والتي كانت تاريخياً متقلّبة وغالباً ما تعرقل الإصلاحات الاقتصادية ذات المغزى. من خلال التركيز على النموّ الاقتصادي من خلال القطاع الخاص، يمكن للبنان البدء ببناء اقتصاد أكثر مرونة في مواجهة عدم الاستقرار السياسي وأقلّ اعتماداً على أهواء قادته السياسيين.

إشراك المغتربين اللبنانيّين والقطاع الخاصّ

تؤكّد المرونة التي أبدتها القطاعات خارج النفوذ السياسي المباشر على الإمكانات الكبيرة للمبادرات التي يقودها القطاع الخاص. وعلى وجه الخصوص، أظهر المغتربون اللبنانيون والشركات المحلّية، مدعومة بروح المبادرة، قدرة على الابتكار والازدهار حتى في خضمّ الشدائد الاقتصادية. هذه المرونة هي شهادة على ما يمكن تحقيقه في البيئات التي، على الرغم من تحدّيها، تبقى معزولة إلى حدّ ما عن الخلل السياسي.

تتمثّل إحدى أهمّ مزايا المبادرات التي يقودها القطاع الخاص في قدرتها على الحدّ من الاعتماد على الإرادة السياسية للطبقة الحاكمة في لبنان

الاستفادة من روح المبادرة

يمثّل الشتات اللبناني، الذي يقدَّر حجمه بعدّة أضعاف حجم السكّان المحليين في لبنان، خزّاناً هائلاً من الموارد، بما في ذلك رأس المال والخبرة والشبكات العالمية. وإشراك هذه المجموعة من خلال آليّات تسخّر روحها الوطنية وقدرتها المالية أمر بالغ الأهمّية. سندات المغتربين هي أداة ماليّة مبتكرة يمكن أن تكون فعّالة بشكل خاصّ. وتسمح هذه السندات لأفراد الشتات بالاستثمار في مشاريع التنمية في وطنهم مباشرة، وهو ما يوفّر لهم حصّة في مستقبل البلاد مع تزويد لبنان بالعملة الأجنبية التي تشتدّ الحاجة إليها.

علاوة على ذلك، لا تقتصر مشاركة المغتربين على المساهمات المالية. إذ يمكن أن تسهم خبراتهم ومهاراتهم العالمية في الأعمال التجارية المحلّية، وهو ما قد يؤدّي إلى إنشاء صناعات جديدة أو تحويل القطاعات القائمة من خلال نقل التكنولوجيا والمعرفة المهنية.

خلق بيئة أعمال مؤاتية

بالنسبة للشركات المحلّية، فإنّ خلق بيئة أعمال مؤاتية يعني الحدّ من العقبات البيروقراطية، وتحسين الأطر القانونية، وضمان قدر أكبر من الشفافية والمساءلة في التعاملات الحكومية. وستجذب هذه البيئة الاستثمار وتشجّع روح المبادرة، وهو أمر ضروري للتنويع الاقتصادي والتنمية المستدامة.

خفض تكلفة إرسال الأموال يمكن أن يشجّع على استخدام القنوات الرسمية، وهو ما يساعد في تحسين إدارة التدفّقات النقدية ويساعد في استقرار الليرة اللبنانية

تحفيز التّحويلات الماليّة

التحويلات هي شريان الحياة للعديد من الاقتصادات، وخاصة بالنسبة للبنان، حيث تشكّل التحويلات نسبة كبيرة من الناتج المحلّي الإجمالي. ويمكن أن يؤدّي تعزيز تدفّق التحويلات عبر القنوات الرسمية من خلال تقديم حوافز ضريبية وعائدات أعلى على الاستثمارات إلى زيادة حجمها وتأثيرها. على سبيل المثال، يمكن تقديم إعفاءات ضريبية للتحويلات المالية التي يتمّ استثمارها في الشركات المحلّية أو العقارات، وقد يتمّ تقديم أسعار فائدة أعلى على الودائع في البنوك اللبنانية.

كما أنّ خفض تكلفة إرسال الأموال يمكن أن يشجّع على استخدام القنوات الرسمية، وهو ما يساعد في تحسين إدارة التدفّقات النقدية ويساعد في استقرار الليرة اللبنانية. يمكن أن تشمل البرامج مطابقة الأموال حيث تتمّ مطابقة أجزاء من الأموال المحوّلة من قبل الحكومة أو الهيئات الدولية عند استخدامها لأغراض محدّدة مثل الرعاية الصحّية أو التعليم أو تطوير البنية التحتية.

استقرار الاقتصاد وإثراؤه

يمكن أن يؤدّي التأثير المشترك لإشراك المغتربين وتمكين الشركات المحلّية إلى استقرار الاقتصاد اللبناني وإثرائه بشكل كبير. ويمكن لهذه المبادرات أن تقلّل من الاعتماد على الإرادة السياسية غير المؤكّدة من خلال إنشاء محرّكات نموّ اقتصادي أكثر استقراراً واستدامة. وضخّ رأس المال والخبرة من المغتربين، إلى جانب وجود قطاع خاصّ محلّي نابض بالحياة، يمكن أن يخلق دورة حميدة من الاستثمار والنموّ، وهو ما يضع الأساس للبنان أكثر ازدهاراً.

يمكن أن يؤدّي التأثير المشترك لإشراك المغتربين وتمكين الشركات المحلّية إلى استقرار الاقتصاد اللبناني وإثرائه بشكل كبير

يرسم السياق التاريخي للإصلاحات الفاشلة في لبنان، الذي يتميّز بنمط ثابت من الوعود التي لم يتمّ الوفاء بها على الرغم من المساعدات الدولية الكبيرة، صورة واضحة للحاجة إلى نقلة نوعية. إنّ التركيز على مبادرات القطاع الخاص ومشاركة المغتربين يوفّر مساراً قابلاً للتطبيق للمضيّ قدماً، وتجنّب العقبات السياسية الراسخة التي أعاقت تعافي لبنان لفترة طويلة. في حين أنّ هذه التدابير وحدها ليست حلّاً سحرياً، إلا أنّها توفّر أساساً عمليّاً للممارسات الاقتصادية المستدامة والاستقرار الطويل الأجل في المشهد اللبناني المليء بالتحدّيات.

إقرأ أيضاً: أرباب العمل “يرمّمون” ثرواتهم.. على حساب الموظّف؟

يسلّط السياق التاريخي للتحدّيات الاقتصادية في لبنان، الذي اتّسم بالتدخّلات الدولية المتكرّرة والتقاعس المحلّي المستمرّ، الضوء على ضرورة حدوث نقلة نوعية في نهج البلاد تجاه الانتعاش الاقتصادي والنموّ. ويحمل القطاع الخاصّ، إلى جانب المغتربين اللبنانيين، مفتاح هذا التحوّل. من خلال تعزيز بيئة أعمال مؤاتية، والاستفادة من روح المبادرة والروح الوطنية للمغتربين، وخلق آليّات مبتكرة للاستثمار وتعزيز التحويلات، يمكن للبنان أن يزرع مشهداً اقتصادياً مرناً وديناميكياً. يقلّل هذا النهج من الاعتماد على الإرادة السياسية المتقلّبة للطبقة الحاكمة غير المتعاونة تاريخياً، ويمهّد الطريق للبنان متنوّع اقتصادياً ومستقرّ ومزدهر. لقد ولّى زمن الاعتماد فقط على المعونة الدولية والمبادرات الحكومية. ومن الواضح أنّ هذه الجهود قد انتهت. مستقبل لبنان الآن يجب أن يكون مدفوعاً بقطاعاته الخاصة ومجتمعه العالمي، اللذين يمكن لجهودهما المشتركة أن تشعل التغيير الجوهري اللازم للخروج من الأزمة الدائمة.

* باحث في الشؤون الاقتصادية والمصرفية.

 

النصّ كتب باللغة الإنكليزية. لقراءة النسخة الأصلية اضغط هنا

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…