الهند: التطرف “الهندوسي” ينقلب على فلسطين

مدة القراءة 8 د

انتقلت الهند من موقعها كرأس حربة ضدّ الاستعمار الغربي لدول العالم الثالث، مطلع ستّينيات القرن العشرين بقيادة زعيمها التاريخي جواهر لال نهرو (توفّي عام 1964)، عندما أسّست حركة عدم الانحياز، إلى جانب مصر جمال عبد الناصر (توفّي عام 1970) ويوغوسلافيا جوزف تيتو (توفّي عام 1980)، إلى دولة مؤيّدة بشدّة لإسرائيل، آخر قلاع الاستعمار الاستيطاني في العالم. فكيف حدث الانقلاب الهندي؟

 

 

حدث هذا التحوّل في لحظة تاريخية فاصلة. الهند حالياً أكبر دولة من حيث السكان (أكثر من مليار و٤٠٠ مليون نسمة)، وهي الحليف المفضّل للولايات المتحدة في معادلة التوازن آسيوياً مع الصين الخطر الأصفر الزاحف. وفي حين أنّها صوّتت ضدّ تقسيم فلسطين في الجمعية العامّة للأمم المتحدة عام 1947، وكانت الهند أوّل دولة غير عربية تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثّل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في عام 1974، وكانت من أولى الدول التي اعترفت بدولة فلسطين في عام 1988، لكنّها في 27 تشرين الأول عام 2023، كانت من بين الدول التي لم تدعم قرار الأمم المتحدة الداعي إلى “هدنة إنسانية” في غزة، فامتنعت عن التصويت. هي تشتري من إسرائيل أسلحة بقيمة ملياري دولار كلّ عام، بما يوازي ثلث صادرات إسرائيل من الأسلحة تقريباً، كما أنّ إسرائيل في حرب غزة تستفيد الآن من إنتاج مصنع المسيّرات الذي أنشأته في حيدر آباد بالهند بالتفاهم مع نيودلهي في كانون الأول عام 2018، وتتزوّد ما يلزمها منه، إضافة إلى قذائف المدفعية والأسلحة الخفيفة من المصانع الهندية.

انتقلت الهند من موقعها كرأس حربة ضدّ الاستعمار الغربي لدول العالم الثالث، مطلع ستّينيات القرن العشرين بقيادة زعيمها التاريخي جواهر لال نهرو

مسار متوازن

لقد اعترفت بدولة إسرائيل عام 1950، إلا أنّها لم تقِم علاقات دبلوماسية حتى عام 1992. وبمجرّد إقامة العلاقات الرسمية بينهما، انطلقت العلاقات الدفاعية والتجارية بينهما، وسرعان ما أصبحت إسرائيل ثاني أكبر شريك دفاعي للهند. ومع ذلك، بقيت العلاقات عاديّة بينهما. واستمرّ الموقف الهندي في المحافل الدولية متوازناً، على الرغم من التقارب مع إسرائيل. فكانت تندّد بالعنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وتؤكّد على الحلّ السياسي وفق قرارات الأمم المتحدة، حتى إنّ أوّل زيارة لرئيس وزراء إسرائيلي للهند قام بها أرييل شارون عام 2003 قوبلت باحتجاجات شعبية كبيرة. ودأبت الهند على التصويت بانتظام ضدّ إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إلى أن وصل رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى السلطة عام 2014، وهو قومي هندوسي متعصّب، فوجد أوجه شبه كثيرة بين الفكر الهندوسي الإقصائي الذي يعتبر الإسلام في البلاد عدوّه الأوّل، ويريد إقصاء الأقلّية الإسلامية التي تُعدّ بمئات الملايين، وفرض الإرادة الهندوسية عليها، تحت شعار “الهند للهندوس”، مع الفكر الصهيوني المتطرّف الذي يعتبر أنّ الوجود الفلسطيني بغالبيّته الإسلامية هو عدوّه الأوّل، مع أنّ حجم الفلسطينيين الإجمالي في فلسطين التاريخية يوازي حجم اليهود فيها تقريباً، ويريد الصهاينة إقصاء الفلسطينيين عن أرضهم تحت شعار: “إسرائيل لليهود”. المعادلة هي التالية: “هند كبرى” بموازاة “إسرائيل كبرى”.

على الرغم من أنّ مودي دعم إسرائيل علناً منذ تولّيه منصبه في عام 2014، إلا أنّ عملية طوفان الأقصى كانت المناسبة الأولى التي أبدى فيها موقفاً مؤيّداً لإسرائيل

على الرغم من أنّ مودي دعم إسرائيل علناً منذ تولّيه منصبه في عام 2014، إلا أنّ عملية طوفان الأقصى كانت المناسبة الأولى التي أبدى فيها موقفاً مؤيّداً لإسرائيل دون أن يتبعه على الفور بيان متوازن، وكان انحيازه لإسرائيل من دون حدود؛ إذ إنّ مودي بعد ساعات قليلة فقط من شنّ حماس هجومها على إسرائيل كان من أوائل قادة العالم الذين ندّدوا بشدّة بـ”الهجمات الإرهابية”، وأعلن أنّ الهند “تتضامن مع إسرائيل في هذه الساعة الصعبة”، وذلك في بيان له نُشر على موقع “إكس”. إلى ذلك، ومنذ بداية الحرب الحالية، نُظّمت التظاهرات المؤيّدة لإسرائيل على نحوٍ مطّرد في الهند، في حين قوبل التضامن مع فلسطين بإجراءات قمعية.

هنا يُطرح السؤال: ما الذي تغيّر في الهند، وكذلك لدى غالبية الهنود، لدرجة أنّهم يدعمون الآن الهجوم الإسرائيلي في غزة على الرغم من أنّ الهنود مثل الفلسطينيين الآن ذاقوا ويلات الاستعمار؟

الحدث الأبرز، في مسار العلاقات الهندية الإسرائيلية، كان دعم إسرائيل للهند في معركة كارجيل بين الجيش الباكستاني ومقاتلي كشمير

ردّ الجميل من الهند إلى إسرائيل

في خمسينيات وستّينيات القرن العشرين، كان من المناسب للهند أن يُنظر إليها على أنّها مناهضة للاستعمار ومؤيّدة للفلسطينيين، لأنّها بذلك ضمنت الحصول على النفط العربي، وحيّدت الدعم العربي المحتمل لباكستان بشأن الخلاف المزمن الهندي الباكستاني على كشمير. لكنّها في وقت لاحق، عندما انتهت الحرب الباردة مطلع التسعينيّات، أرادت الانضمام إلى الاقتصاد العالمي، فاختارت التقرّب من الولايات المتحدة، بعدما كانت لمدّة طويلة قريبة من الاتحاد السوفييتي السابق. وفي السياق نفسه، كان تقارب الهند مع إسرائيل قبل سيطرة الهندوس المتطرّفين على السلطة عام 2014، بذريعة أنّ الطريق إلى قلوب الأميركيين بوّابته إسرائيل. لكن في عهد ناريندرا مودي، تسارعت العلاقة مع إسرائيل إلى حدّ أنّها أصبحت علاقة استراتيجية. وبات الخطاب الرسمي يتمحور حول معادلة أنّ دعم إسرائيل للهند سيساعدها على العودة لأن تكون دولة هندوسية، مع تحويل الهند إلى قوّة عالمية.

لكنّ الحدث الأبرز، في مسار العلاقات الهندية الإسرائيلية، كان دعم إسرائيل للهند في معركة كارجيل بين الجيش الباكستاني ومقاتلي كشمير فوق قمم جبال الهملايا في الحدود الفاصلة بين كشمير الباكستانية وكشمير الهندية ومناطق حدودية أخرى، عام 1999. ولولا الدعم التقني الإسرائيلي للجيش الهندي الذي واجه سلاحه الجوّي صعوبات جمّة في مناطق جبلية وعرة، وتكبّده خسائر عدّة في المعركة، وذلك من خلال توفير إسرائيل الإمدادات والمعدّات العسكرية الحيوية، بما في ذلك الذخائر الموجّهة بدقّة، وطائرات المراقبة بدون طيار، إضافة إلى الدعم الصهيوني للهند الذي لا يقلّ أهميّة في الولايات المتحدة، في عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، لما تمكّن الجيش الهندي من التغلّب على القوات المهاجمة، بالقتال تارة، وبالضغط الأميركي تارة أخرى، لإجبار القوات الباكستانية النظامية على الانسحاب من المرتفعات الحاكمة، وهو ما سهّل على الجيش الهندي التفوّق على الحركات الكشميرية المشاركة في المعركة.

في شباط الماضي، ذكرت وسائل إعلام هندية أنّ الهند زوّدت إسرائيل بطائرات مسيّرة متطوّرة من طراز هرمس 900

تُوّج التعاون العسكري الهندي الإسرائيلي بعد سنوات بقيام شركة إلبيتElbit  الإسرائيلية، التي هي الشركة الأولى في تزويد الجيش الإسرائيلي بالمسيّرات، بتأسيس أوّل مصنع مسيّرات خارج إسرائيل بالشراكة مع شركة أدنى Adani  الهندية الخاصة الرائدة في الصناعات الجوّية الدفاعية في منطقة حيدر آباد التي كانت معقلاً إسلامياً تاريخياً قبل استقلال الهند عام 1947. وبدأ المصنع بإنتاج مسيرة Hermes 900، وتصديرها إلى الزبائن الدوليين. وهي عبارة عن طائرة بدون طيار متعدّدة الأدوار، ومتطوّرة مع قدرة تحمّل تصل إلى 36 ساعة متواصلة، وحمولة تصل إلى 420 كلغ، وارتفاع يزيد على 32,000 قدم (10 كلم) مع تطبيقات في المجالات المدنية والدفاعية والأمن الداخلي.

إقرأ أيضاً: مودي: “وليّ” آلهة “الهندوس”… يحكم أكبر دولة في العالم

في شباط الماضي، ذكرت وسائل إعلام هندية أنّ الهند زوّدت إسرائيل بطائرات مسيّرة متطوّرة من طراز هرمس 900 من المصنع الذي أنشأه الجيش الإسرائيلي في الأصل لتزويد الجيش الهندي بما يحتاج إليه. وذكرت التقارير أنّه تمّ تحويل 20 طائرة بدون طيار إلى إسرائيل بعد نفاد الإمدادات على هذا الصعيد لدى الجيش الإسرائيلي. وهذا له معنى إضافي يتعلّق بالاستنزاف الذي تعرّضت له إسرائيل في الحرب الحالية، ما دفع الهند إلى المسارعة بتزويد إسرائيل بما تحتاجه من مسيّرات، مع العلم أنّ أوّل استخدام إسرائيلي لهذه الطائرة المقاتلة كان في حرب 2014 في غزة أيضاً. ولم تكتفِ حكومة الهند بإرسال المسيّرات المصنّعة على أراضيها للمشاركة في المجهود الحربي الإسرائيلي، بل قدّمت شكلاً آخر من الدعم غير المباشر، عن طريق إرسال الآلاف من العمال لتعزيز الاقتصاد الإسرائيلي بعدما حظرت حكومة نتنياهو دخول عشرات الآلاف من العمّال الفلسطينيين إلى الأراضي المحتلة.

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…