لفتني سؤال طرحته إحدى المذيعات على شاشة عربية معروفة على متحدّث باسم حماس مباشرة على الهواء: ماذا حقّقتم منذ 7 أكتوبر ما دام مطلبكم الثابت اليوم هو انسحاباً إسرائيلياً كاملاً من غزة ووقفاً دائماً لإطلاق النار؟! ألم يكن هذا وضع غزة قبل 7 أكتوبر؟ صمت “المتحدّث” لبرهة وأجاب، ويا ليته لم يجِب، فقال: “7 أكتوبر قطعت الطريق على مخطّط إسرائيلي مقبل كانوا يخطّطون له حتى لو لم تحصل عملية طوفان الأقصى”. لا يحتاج جوابه إلى تعليق. فهو تبرير غير منطقي، لكنّ الخلاصة منه أنّهم أخطأوا بـ”قصد أو بغير قصد”. فلربّما نسمع يوماً من السنوار ما قاله الأمين العام للحزب السيد نصرالله بعد 2006: لو كنت أعلم! بكلّ الأحوال ما حصل يصبّ في خانة اثنين حصراً على حساب الشعبين الفلسطيني واللبناني والشعوب العربية عموماً. فعملية طوفان الأقصى مصلحة إيرانية – إسرائيلية في آن. ولكلّ منهما حساباته ومصالحه.
منذ أكثر من 9 أشهر وإيران تحثّ حماس على الاستمرار برفض أيّ حلّ سياسي للحرب في غزة على الرغم من الخسائر البشرية الهائلة وتهجير مئات الآلاف، وتحويل مدن القطاع وقراه إلى ركام.
بالموازاة تدفع طهران بالحزب في جنوب لبنان إلى الاستمرار بما سمّاه حرب المساندة لحماس وحرب المشاغلة للجيش الإسرائيلي ولو على حساب أهل الجنوب وأرواحهم ومصالحهم وقراهم وأعمالهم.
تدفع طهران بالحزب في جنوب لبنان إلى الاستمرار بما سمّاه حرب المساندة لحماس وحرب المشاغلة للجيش الإسرائيلي ولو على حساب أهل الجنوب
كما حماس كذلك الحزب
كما حماس التي لم ولا تأخذ في الحسبان حياة الإنسان الفلسطيني ولا تزال تتعمّد رفض أيّ مبادرة تطرح حلّاً سياسياً للمأساة الفلسطينية، ووصل بها الأمر حدّ رفض مبادرة بايدن المعزّزة بقرار صادر عن مجلس الأمن وتجاهلت الضغوطات المصرية والقطرية، ولم تعلن تأييدها لمقرّرات القمم العربية والإسلامية ولا ما تبنّته الجمعية العامة للأمم المتحدة، كذلك يرفض الحزب أيّ حلّ سياسي ودبلوماسي للوضع في جنوب لبنان وبقاعه. بل يتعمّد التصعيد واستعمال أنواع من الأسلحة تتجاوز حدود المساندة، ويستهدف العمق وصولاً إلى بحيرة طبريا وصفد وما قبل حيفا، مضيفاً بعداً سيكولوجياً ونفسيّاً على ممارساته التي كانت آخِرتها بثّه لفيديوهات “الهدهد” الهادفة إلى رفع معنويّات بيئته، والتأثير سلباً على معنويّات العدوّ، وإشعار الأخير أنّه يملك بنكاً للأهداف.
كلا حماس والحزب لا يعطيان الأولوية لمصالح الشعبين الفلسطيني واللبناني، بل لمصلحة طهران، ولحساباتها الواضحة. فتارة نرى خفضاً للتصعيد مترافقاً مع مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة متقدّمة بين طهران وواشنطن، وتارة أخرى تصعيداً على كلّ الجبهات متى تعرقلت المفاوضات غير المرتبطة بغزة لا من قريب ولا من بعيد.
في لبنان، يتجاهل الحزب المبادرة الفرنسية بنقاطها كافّة، ويرفض التعامل مع طروحات باريس التي منها تعزيز دور الجيش اللبناني، ومشاركة قوات فرنسية منضوية تحت لواء اليونيفيل في دوريات مشتركة لمنع الاعتداءات الإسرائيلية. ولم يكتفِ الحزب بردّ المبادرة الفرنسية، بل رفض التجاوب مع مساعي البيت الأبيض، وجعل هوكستين يعود إلى واشنطن خالي الوفاض بنتائج سلبية مخيّبة للإدارة التي لا ترغب حالياً بتوسيع دائرة الحرب في الشرق الأوسط.
شأن الأميركيين شأن إيران التي بدورها لا تريد توسّع الحرب بعدما جرّبت يوم 13 نيسان قدراتها فكان الردّ على الردّ باستهداف دقيق لمحيط أصفهان ورادارات المفاعلات النووية وصواريخها. فجلّ ما تريده طهران هو تعزيز أوراقها التفاوضية الدولية مع الحرص على إبعاد الحرب عن أراضيها وجغرافيّتها. وهنا دور كلّ من حماس والحزب والحوثيين.
تريد طهران استمرار كلّ من حماس والحزب بحرب الاستنزاف المدمّرة لتحقيق الأهداف الإيرانية
ماذا تريد إيران إذن؟
تريد طهران استمرار كلّ من حماس والحزب بحرب الاستنزاف المدمّرة لتحقيق الأهداف الإيرانية التالية:
– إشغال إسرائيل جنوباً بحماس ورفيقاتها من الفصائل، وشمالاً بالحزب لإلهائها عن أراضي إيران وعن مواقع أسلحتها النووية.
– تُشغل إيران إسرائيل سياسياً بصراعاتها الداخلية على السلطة، وكيفية الاستمرار (أي إسرائيل) كبلد استراتيجي، بينما تنصرف طهران لتطوير تخصيبها النووي وصولاً إلى عتبة إنتاج السلاح النووي، والصواريخ التي ستحمله.
– توسعة الشرخ بين إسرائيل والمجتمع الدولي بتسليط الضوء على المجازر المرتكبة بحقّ المدنيين العزّل، وعلى المستشفيات والمدارس والجامعات، وعلى مخيّمات اللاجئين.
– مع استحقاق الانتخابات الرئاسية الأميركية، تسعى طهران إلى توسعة الشرخ بين تل أبيب والإدارة في واشنطن (تريد الإدارة أن تجاري بعض تطلّعات التيارات التي يحتويها حزب “الخيمة” الديمقراطي كأمثال بيرني ساندرز وإليزابيت ويرن وغيرهما).
– كما تعتبر طهران أنّ حرب الاستنزاف في جنوب لبنان وفي القطاع ستلزم واشنطن بتقديم تنازلات لحكم الملالي، ومن بينها الاعتراف بمصالحه في الدول المجاورة، والانتقال من مبدأ “احتواء إيران” إلى مبدأ الإقرار النهائي بحقّ إيران بتكريس نفوذها في المنطقة، وبحقّها في امتلاك سلاح نووي ودخولها “نادي الأقوياء”.
– وآخِرة الرسائل وجّهتها إيران لأوروبا بلسان نصرالله حين هدّد قبرص.
هذه بعض أهداف إيران من حرب المشاغلة والاستنزاف. غير أنّ رقصة “التانغو” تحتاج إلى اثنين، فهل تجاري تل أبيب مصالح إيران؟
ماذا تريد إسرائيل؟
– تنظر تل أبيب إلى ما يدور داخلها وعلى حدودها نظرة استراتيجية لا تتعلّق فقط بـ”ردع طويل الأمد” يشبه الهدوء الذي عاشته بين 2006 و2023 في جنوبي لبنان، بل تتطلّع إلى “ردع دائم” يحرم أيّ فصيل من محاولة تكرار عملية تحاكي ما حصل في 7 أكتوبر.
في لبنان، يتجاهل الحزب المبادرة الفرنسية بنقاطها كافّة، ويرفض التعامل مع طروحات باريس التي منها تعزيز دور الجيش اللبناني
– كما أنّ إسرائيل، إلى جانب تكريس سياسة الردع الدائم، لا تريد اختلال ميزان القوى الإقليمي لمصلحة إيران التي تحرّك ميليشيات الحوثي والحشد والحزب.
– تريد إسرائيل ضمان عودة مئات آلاف مستوطنيها إلى الشمال، وتعلم تماماً أنّ وعدها التاريخي حين هاجروا من كلّ بقعة بالأرض إلى إسرائيل كان توفير الأمان لهم.
– المعارضة الإسرائيلية كما نتنياهو وجماعته يختلفون على كلّ شيء اليوم إلا على وجوب إنهاء الحزب، والرأي العام الإسرائيلي كذلك!
إقرأ أيضاً: الحزب: خارج “النّظام الدّوليّ” وليس الدّولة فقط
أمام مشهد مصالح إيران من ناحية، ومصالح إسرائيل من ناحية أخرى، أين مصالح لبنان في خضمّ هذا الصراع المرير؟
وأين الدولة اللبنانية الفاقدة للقرار، ليس فقط قرار الحرب والسلم واستباحة الحدود الشرقية والجنوبية، بل أيضاً قرار معاداة الدول وتهديدها كما جرى أخيراً مع دولة قبرص؟
لمتابعة الكاتب على X: