يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون امتصاص مرارة الخسارة الأوروبية ديمقراطياً ومؤسّساتياً. يريد أن يمتحن حجمه التشريعي فرنسياً بعدما خسر الأكثرية أوروبياً. هي مقامرة محفوفة كثيراً بالمخاطر. يخطّط من أجل الاستمرار في مقارعة قوى اليمين المتطرّف، التي تقدّمت عليه أوروبياً في فرنسا، في حين أنّها لم تنَل الأغلبية أوروبياً. كلّ ذلك من أجل عدم تسليم البلاد إلى اليمين المتطرّف، وإنقاذ ما بقي من عهده.
لا يريد ماكرون، بعدما تمّ تقديم الاتّحاد كمشروع تقدّمي وتضامنيّ سلميّ داعٍ إلى الاستقرار، بتناغم مع الجمهورية الخامسة الفرنسية، أن يتحوّل تأثير الانتخابات الأوروبية بشكل مباشر وكاسر على الساحة الفرنسية، وأن تتحمّل وحدها الأعباء. يكافح لأجل أن لا يتمكّن اليمين المتطرّف المتوحّش من أن يلتهم الدولة قبل أن يلتهم الاتحاد القارّي. فوجود فرنسا سابق على وجود الاتحاد، وبقاء فرنسا المعتدلة والمتنوّعة هو حجر أساس، وداعم جوهري لبقاء وديمومة الاتحاد الأوروبي، لا سيما أنّ الاتحاد ما زال بإمكانه التحمّل مع تقدّم اليمين من دون أغلبية.
درب خطير
يعلم ماكرون مع حلفائه خطورة هذه الخطوة. قد تسفر عن نتيجة معاكسة على حلف ماكرون إن لم يتمكّن من دوزنة تحالفاته وتقاطعاته المصلحيّة التي سوف تكون على القطعة إدارياً ومؤسّساتياً. لكنّه لا يخشى الشعب ويعتبر الانتخابات فرصة لإعادة تأكيد مجموعة المبادئ.
يسعى ماكرون في محاولته الالتفافية إلى ضمان الأغلبية البرلمانية في هذه الانتخابات المبكرة. إلا أنّ هذا الاحتمال تشوبه المخاطر. فالجبهة الجمهورية مثلاً، وهي زمرة تحالف الأحزاب التي اتّحدت في الماضي من أجل منع صعود التجمّع الوطني اليميني المتطرّف، خفّت قوّتها بشكل كبير. أضحت شبه منعدمة. يراهن ماكرون بالتحديد على إضعاف زخم وتقدّم مارين لوبان وحزبها التجمّع الوطني. فعلى الرغم من الفوز الكبير للتجمّع الوطني في الانتخابات الأوروبية، ما زالت فرصتهم في تحقيق نصر حاسم في الانتخابات التشريعية تبدو أقلّ.
ينطلق ماكرون من فرضية أنّ الناخب الفرنسي في أكثريّته صاحب مزاج معتدل واتّحادي أي يميل نحو الكتلة والاندماج
النّاخب الفرنسيّ صاحب مزاج معتدل
ينطلق ماكرون من فرضية أنّ الناخب الفرنسي في أكثريّته صاحب مزاج معتدل واتّحادي، أي يميل نحو الكتلة والاندماج. وهذا ما يفسّر حدوث تظاهرات باريس عقب فوز قوى اليمين المتطرّف اليوم. لكنّه ممتعض من بعض السلوكيات التي أشعلت نيران الاعتراض. لذلك يتمسّك بفرضية تقول إنّها المعاقبة على المستوى الأوروبي من أجل إيصال رسائل محلّية إلى السلطة من أجل التصحيح.
عمليّاً يتوقّع أن يربح اليمين المتطرّف أعداداً إضافية من المقاعد البرلمانية. لكنّها لن تكون كافية بالقدر الذي يمكّنه من تشكيل حكومة. لذا من الممكن أن يقوم الناخب الفرنسي بتصحيح تصويته في الانتخابات المقبلة، وبالتالي استعادة نوع من تحالف الأغلبية العاديّة من أجل تكريس نوع من التوازن.
إنّه درب شديد الخطورة من الممكن أن يعيق مارين لوبان ويكبح جماحها. ويؤدّي إلى نوع من التعايش المحايد بين الإليزيه والجمعية الوطنية، ويضع حدّاً للاستبدال الكبير والتغوّل في السلطات، لا سيّما أنّ اختلافاً بين الانتخابات التشريعية الفرنسية والأوروبية، حيث لا ينجح النائب في فرنسا إلا إذا نال أكثر من 50% من الأصوات.
يعمد الرئيس الفرنسي ماكرون إلى إجبار اليمين المتطرّف على المشاركة الباردة في الحكم لمدّة سنتين إلى أن يحين موعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، والعمل بشكل متوازن على إضعاف اليمين المتطرّف وحزب التجمّع الوطني. هي مسيرة خطيرة على ماكرون عند أيّ خطأ تنتظره مارين لوبان رئيسة الوزراء أو رئيس لائحتها بارديلا، في حال تمكّن اليمين من حصد تقدّم وتحقيق أغلبية.
إقرأ أيضاً: اليمين المتطرّف يغيّر أوروبا أم يتغيّر؟
هكذا تظهّرت أهمّية الانتخابات التشريعية الأوروبية. انعكست على داخل الدولة الفرنسية القوّة النووية الأولى داخل الاتحاد. حتماً لن يقتصر ذلك على الأعضاء الأوروبيين. بل سيمتدّ إلى كلّ العالم ودوله. يكافح من أجل كتلته، ويريد أن يتحوّل إلى قوّة فاعلة استراتيجياً ومؤثّرة سياسياً وغير تابعة. تريد فرنسا العودة إلى سابق عهدها. فهل تعيد الانتخابات التشريعية الجديدة إنتاج حالات تعايش فرنسية؟
*في الحلقة الثانية: الماراثون الديمقراطي الأوروبي والزلزال الفرنسيّ (2/2)
لمتابعة الكاتب على X: