منذ اندلاع حرب غزّة في السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي، تظهر في لبنان قضايا مفتعلة من نوع العودة في هذه الأيّام إلى فتح الملفّ الرئاسي. قبل ذلك، كانت هناك حملات على الوجود السوري الذي يهدّد بالفعل التوازن الديمغرافي في لبنان في المدى الطويل. حالَ وعي قسم لا بأس به من اللبنانيين، خصوصاً من المسيحيين، دون مواجهة، كانت مطلوبة، مع السوريين اللاجئين إلى لبنان لأسباب أكثر من معروفة.
كان واضحاً أنّ الهدف من اغتيال باسكال سليمان مسؤول “القوات اللبنانيّة” في منطقة جبيل إثارة المسيحيين على الوجود السوري. ما مصير التحقيق في تلك الجريمة التي وقعت في السابع من نيسان الماضي، علماً أنّ أوساطاً رسمية لبنانية تحدّثت وقتذاك، من دون لبس، عن تورّط مباشر لمواطنين سوريين فيها؟
خفتت موجة التصعيد الممنهجة التي استهدفت السوريين، طوال أسابيع، من دون أن يعني ذلك انتفاء الحاجة إلى معالجة هذه المشكلة اليوم قبل غد. إنّها مشكلة يقف خلفها النظام السوري وتدخّل “الحزب”، بناء على طلب إيراني، في الحرب التي يخوضها هذا النظام مع شعبه منذ ما يزيد على ثلاثة عشر عاماً. أكثر من ذلك، لم يعد سرّاً أنّ الهدف من تهجير هؤلاء إلى لبنان وغير لبنان يتمثّل في إحداث تغيير ديمغرافي لغير مصلحة السُّنّة في سوريا. يصبّ التغيير في خدمة الوجود الإيراني من جهة ودعم النظام الأقلّوي القائم منذ عام 1970 من جهة أخرى.
امتلاك طهران لقرار الحرب والسلم وتوريط البلد في حرب مثل حرب غزّة لا ناقة له فيها ولا جمل
أين الحملة على الوجود السّوريّ؟
غابت الحملات على الوجود السوري، وإن مؤقّتاً، وعاد الفراغ الرئاسي إلى الواجهة في حين يعرف الطفل في لبنان أنّ هذه القضيّة مرتبطة برغبة إيرانيّة في بقاء لبنان من دون رئيس للجمهوريّة من منطلق واضح كلّ الوضوح. ترفض “الجمهوريّة”، كما ظهر من خلال الزيارة الأخيرة التي قام بها لبيروت علي باقري كنّي وزير الخارجية الإيراني بالوكالة، أيّ تخلٍّ عن لبنان بصفة كونه ورقة من أوراقها في الإقليم. تتصرّف إيران في لبنان من منطلق أنّها صاحبة القرار الأوّل والأخير في لبنان. يشمل ذلك بالطبع امتلاك طهران لقرار الحرب والسلم وتوريط البلد في حرب، مثل حرب غزّة، لا ناقة له فيها ولا جمل.
لا حاجة إلى تفاهمات وحوارات ولا إلى سجالات من نوع تلك التي دارت بين زعيم “تيّار المردة” سليمان فرنجيّة ورئيس “التيار” جبران باسيل الذي يكشف كلّ يوم يمرّ مدى جهله بلبنان والمنطقة ومدى تعاميه عن الواقع الذي يعيش البلد في ظلّه.
يتمثّل هذا الواقع في أنّ رئاسة الجمهوريّة في لبنان باتت رهينة أخرى لدى إيران، وذلك منذ استطاع الحزب فرض مرشّحه ميشال عون رئيساً للجمهوريّة في 31 تشرين الأوّل 2016. وقتذاك، وضع الحزب حدّاً للفراغ الرئاسي الذي استمرّ سنتين وخمسة أشهر مع انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، الذي كان عهده بمنزلة مرحلة انتقالية نحو وضع إيران يدها بشكل كامل على لبنان تمهيداً لضمّه إلى ترسانة المفاوضات التي تجريها مع “الشيطان الأكبر” الأميركي.
غابت الحملات على الوجود السوري، وإن مؤقّتاً، وعاد الفراغ الرئاسي إلى الواجهة
صارت رئاسة الجمهوريّة في لبنان بمنزلة متاهة تُستخدم في إغراق البلد في همّ ليس هو الهمّ الحقيقي للبلد. لا فائدة تذكر من وجود رئيس للجمهورية ما دام الجمهوريّة لم تعد موجودة. يبدو مطلوباً من اللبنانيين استعادة الجمهوريّة بدل التلهّي بالوجود السوري أحياناً، وهو وجود يتحمّل الحزب مسؤولية كبيرة عنه بعدما احتلّ أراضي سوريّة وهجّر سكّانها السّنّة. كذلك يبدو مطلوباً الانتقال بلبنان في أحيان أخرى إلى التلهّي بموضوع الفراغ الرئاسي. يحصل ذلك فيما أساس الأزمة الراهنة هو السلاح غير الشرعي لميليشيا مذهبيّة خطفت البلد وورّطته في حرب غزّة التي ليس ما يشير إلى نهاية قريبة لها.
أيّ مصير ينتظر لبنان؟
أيّ مصير ينتظر لبنان في ضوء حرب غزّة التي يبدو أنّها ستغيّر المنطقة، خصوصاً أنّ طرفَي الحرب، أي اليمين الإسرائيلي و”حماس”، يجدان مصلحة في استمرارها. لا تستطيع “حماس” وقف الحرب من دون شرطين أساسيَّين بالنسبة إليها. الشرطان مسألة حياة أو موت للحركة بجناحَيها الداخلي في غزّة والخارجي في الدوحة وإسطنبول. أوّل الشرطين وقف النار بشكل دائم، وثانيهما الانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزّة. هذان الشرطان غير مقبولين إسرائيلياً… إلى إشعار آخر. حتّى المبادرة الأميركية التي أطلقها الرئيس جو بايدن والتي وافق عليها مجلس الأمن لا تتضمّن ما يشير إلى وقف دائم للنار وإلى انسحاب إسرائيلي كامل من القطاع.
ربط لبنان نفسه، بهذا الوضع المعقّد الذي وُلد من رحم حرب غزّة. صار لبنان في مهبّ حرب غزّة وما سيتبعها. لم يعد السؤال: ما الذي سيحلّ بالوجود السكّاني السوري في الأراضي اللبنانيّة؟ أو هل يُنتخب رئيس للجمهوريّة قريباً؟
منذ اندلاع حرب غزّة في السابع من أكتوبر الماضي، تظهر في لبنان قضايا مفتعلة من نوع العودة في هذه الأيّام إلى فتح الملفّ الرئاسي
السؤال هو: ما مصير لبنان في حال انتهاء حرب غزّة، وهي حرب لا يمكن إلّا أن تؤدّي إلى مؤتمر أو لقاء دولي تُبحث فيه ترتيبات الحلّ الشامل وحتّى عملية إعادة تشكيل المنطقة وحجم الدور الإيراني في الشرق الأوسط والخليج مستقبلاً؟ من يمثّل لبنان في هذا المؤتمر أو في هذا اللقاء؟
أين لبنان من كلّ هذه التطوّرات فيما يتبيّن في كلّ يوم يمرّ غياب أيّ قوّة لبنانية متماسكة تستطيع إيجاد توازن مع فصيل مسلّح تابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني حوّل لبنان “ساحة” تفعل فيها “الجمهوريّة الإسلاميّة” ما تشاء. يشمل ذلك، بين ما يشمل، نشاطاً إعلامياً وغير إعلاميّ للحوثيين الذين يهدّدون الملاحة في البحر الأحمر… على سبيل المثال وليس الحصر ليس إلّا!
لمتابعة الكاتب على X: