حركة تداول سندات لبنان السيادية بحسومات حادّة أخيراً هي حركة من دون بركة. وستظلّ مستمرّة إلى يوم نجاح إعادة هيكلة المصارف في لبنان. فقد اجتذبت هذه السوق “الصناديق الجشعة” المتخصّصة في الديون المتعثّرة.
في عالم التمويل الدولي المعقّد، كان إصدار سندات اليورو لفترة طويلة أداة حيوية للبلدان للحصول على العملات الأجنبية التي تشتدّ الحاجة إليها. ومع ذلك، فإنّ هذه الاستراتيجية تأتي مع مخاطر كبيرة، خاصة بالنسبة للدول التي تتصارع مع عدم الاستقرار الاقتصادي وسوء الإدارة. وتقدّم تجربة لبنان مع سندات اليورو مثالاً مؤثّراً عن هذه المخاطر التي تتجلّى في أزمة ماليّة حادّة. يستكشف هذا المقال ديناميكيات تداول سندات اليورو بعد التخلّف عن السداد، ويقارن مع دول أخرى مثل الأرجنتين واليونان وفنزويلا، لفهم الآثار الأوسع لمثل هذه الاضطرابات الماليّة.
سندات اليورو، المقوَّمة عادة بعملة أجنبية مثل الدولار الأميركي، هي سندات دين تصدرها البلدان لجذب المستثمرين الدوليين. بدأ لبنان بإصدار سندات اليورو في تسعينيات القرن العشرين لتمويل عجز ميزانيّته والدين العامّ المزدهر. على مرّ العقود، نما الدين العام اللبناني بشكل مثير للقلق، مدفوعاً بالفساد وعدم الاستقرار السياسي وسوء الإدارة الاقتصادية. وبحلول عام 2019، ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلّي الإجمالي إلى أكثر من 150%، الأمر الذي عجّل باندلاع أزمة ماليّة في آذار 2020. ثمّ تخلّف لبنان عن سداد سندات اليورو بقيمة 1.2 مليار دولار، مسجّلاً أوّل تخلّف عن سداد ديونه السيادية على الإطلاق. واتّخذت الحكومة آنذاك قراراً عشوائياً بالتوقّف التامّ عن خدمة الدين العامّ.
خلافاً لما قد يتوقّعه المرء، فإنّ تخلّف مُصدر السندات السيادية عن سداد ديونه لا يوقف تداول سنداته. وبعد التخلّف عن السداد، تصبح سوق هذه السندات شديدة التقلّب، مع هبوط الأسعار حين يعيد المستثمرون تقويم المخاطر. فعلى سبيل المثال، تستمرّ سندات اليورو المتعثّرة في لبنان بالتداول لكن بحسومات كبيرة. وهو ما يعكس الآفاق القاتمة للسداد من دون إصلاحات اقتصادية وسياسية جوهرية.
يصبح السوق شديد التقلّب وأقلّ قابلية للتنبّؤ به مع نشاط التداول الباقي بسبب اندفاعه إلى حدّ كبير بالاعتبارات الانتهازية والاستراتيجية بدلاً من منطق الاستثمار التقليدي
نشاط السوق الثانوية لهذه السندات مدفوع بمزيج من مستثمري الديون المتعثّرة وتجّار المضاربة وصناديق التحوّط الانتهازية التي تتطلّع إلى الاستفادة من إعادة الهيكلة أو التسويات القانونية في نهاية المطاف.
الأرجنتين واليونان وفنزويلا
أنماط التداول التي لوحظت في لبنان ليست فريدة من نوعها. شهدت الأرجنتين في أعقاب عجزها الهائل عن سداد ديونها في عام 2001 وما تلاه من تخلّف جزئي عن السداد في عام 2014، تداول سنداتها السيادية بحسومات حادّة. اجتذبت السوق “الصناديق الجشعة” المتخصّصة في الديون المتعثّرة، على أمل الاستفادة من تسويات الديون في نهاية المطاف.
على نحو مماثل، خلال أزمة ديون منطقة اليورو، تمّ تداول السندات اليونانية وسط تقلّبات حادّة في الأسعار وانخفاض السيولة، حيث تكهّن المستثمرون بنتائج تدابير التقشّف ومفاوضات الإنقاذ. ويوضح تخلّف فنزويلا عن سداد ديونها في عام 2017 هذه الديناميات. وعلى الرغم من العقوبات الدولية والوضع الاقتصادي المتردّي، استمرّ تداول سنداتها، ولا سيما من قبل مستثمري الديون المتعثّرة. وأدّى الافتقار المطوّل إلى خطط إعادة الهيكلة إلى إبقاء الأسعار منخفضة وأحجام التداول منخفضة، مع إضافة الإجراءات القانونية من قبل الدائنين طبقة أخرى من التعقيد.
مخاطر تأخير إعادة الهيكلة
عندما يظلّ بلد ما في حالة تخلّف عن السداد لفترة طويلة دون خطط واضحة لإعادة الهيكلة، كما هو حال لبنان اليوم، فإنّ البيئة التجارية لسنداته تتدهور أكثر. تجفّ السيولة مع استعداد عدد أقلّ من المستثمرين للمشاركة في معاملات عالية المخاطر. ولا تزال أسعار هذه السندات مخفّضة إلى حدّ كبير. وهو ما يعكس شكوك السوق بشأن آفاق التعافي. تضيق قاعدة المستثمرين، ويهيمن عليها المتخصّصون في الأصول المتعثّرة، ويصبح نشاط التداول متقطّعاً ومضارباً.
أصبحت اليونان مركز أزمة ديون منطقة اليورو في أوائل عام 2010 بسبب الاقتراض المفرط
في مثل هذه السيناريوهات، يؤدّي غياب إعادة الهيكلة إلى تفاقم تشاؤم المستثمرين. وأصبحت المعارك القانونية ومناورات الرافضين الاستراتيجية من قبل الدائنين أمراً شائعاً، وهذا من شأنه أن يعقّد أيّ مفاوضات في المستقبل، ويخلق سوقاً مجزّأة حيث يكون التداول مدفوعاً بالمضاربة بدلاً من استراتيجيات الاستثمار التقليدية.
النّظرة المستقبليّة
لا يزال مستقبل سندات اليورو في لبنان وتعافيه الاقتصادي العامّ غير مؤكّدين. ويمكن أن يمهد النجاح في إعادة هيكلة الديون وتنفيذ الإصلاحات الطريق للانتعاش. لكنّ هذا سيتطلّب إرادة سياسية كبيرة ودعماً دولياً.
يمكن مقارنة إصدارات السندات الدولية في لبنان بالعديد من البلدان التي شهدت أزمات ديون سيادية مماثلة، تميّزت بمستويات عالية من الدين العامّ، وسوء الإدارة الاقتصادية، والتخلّف عن السداد. في ما يلي بعض البلدان التي واجهت مواقف مماثلة:
الأرجنتين
– تراكم الديون: كان للأرجنتين تاريخ من عدم الاستقرار الاقتصادي، وتخلّفت عن سداد ديونها السيادية عدّة مرّات، لا سيما في عام 2001 ومرّة أخرى في عام 2014.
– التخلّف عن السداد في عام 2001: في عام 2001، تخلّفت الأرجنتين عن سداد 93 مليار دولار من ديونها. كان في ذلك الوقت أكبر تخلّف عن سداد الديون السيادية في التاريخ. وكانت الأزمة مدفوعة بسعر الصرف الثابت، والعجز الماليّ، والركود الحادّ.
– التخلّف عن السداد في عام 2014: واجهت الأرجنتين عجزاً آخر عن السداد في عام 2014 عندما فشلت المفاوضات مع الدائنين الرافضين.
– التأثير الاقتصادي: أدّى التخلّف عن السداد إلى ركود عميق وانخفاض قيمة العملة وتضخّم مفرط.
– إعادة هيكلة الديون: اضطرّت الأرجنتين مراراً وتكراراً إلى إعادة هيكلة ديونها، والتفاوض على الشروط مع الدائنين، والسعي إلى الحصول على الدعم من المؤسّسات الدولية مثل صندوق النقد الدولي.
سندات اليورو، المقوَّمة عادة بعملة أجنبية مثل الدولار الأميركي هي سندات دين تصدرها البلدان لجذب المستثمرين الدوليين
أوجه التشابه مع لبنان:
– شهد كلا البلدين أزمات اقتصادية حادّة تفاقمت بسبب عدم الاستقرار السياسي وسوء الإدارة.
– تخلّف كلّ منهما عن سداد ديونه السيادية، الأمر الذي أدّى إلى مفاوضات معقّدة مع الدائنين.
ماذا عن اليونان؟
– أزمة ديون منطقة اليورو: أصبحت اليونان مركز أزمة ديون منطقة اليورو في أوائل عام 2010 بسبب الاقتراض المفرط وسوء الإدارة المالية والضعف الهيكلي في اقتصادها.
– عمليات الإنقاذ والتقشّف: تلقّت اليونان عمليات إنقاذ متعدّدة من صندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية مقابل تنفيذ تدابير التقشّف.
– المصاعب الاقتصادية: أدّت تدابير التقشّف إلى اضطرابات اجتماعية كبيرة، وارتفاع معدّلات البطالة، وانكماش حادّ في الناتج المحلّي الإجمالي.
– إعادة هيكلة الديون: كان على اليونان إعادة هيكلة ديونها والدخول في مفاوضات مكثّفة مع شركائها الأوروبيين والمؤسّسات الدولية.
أوجه التشابه مع لبنان:
– واجه كلاهما أزمات بسبب ارتفاع الدين العامّ والعجز المالي.
– كلاهما يحتاج إلى مساعدة دولية ويواجه تحدّيات اجتماعية واقتصادية كبيرة نتيجة تدابير التقشّف والإصلاحات.
الحالة في فنزويلا
– الانهيار الاقتصادي: كانت فنزويلا في حالة انهيار اقتصادي بسبب سنوات من سوء الإدارة والفساد والاضطرابات السياسية. تخلّفت البلاد عن سداد العديد من مدفوعات الديون بدءاً من عام 2017.
– التضخّم المفرط: أدّى الوضع الاقتصادي إلى تضخّم مفرط ونقص حادّ في السلع الأساسية وأزمة إنسانية.
– التخلّف عن سداد الديون: أثّر تخلّف فنزويلا عن سداد ديونها على قدرتها على الوصول إلى أسواق رأس المال الدولية، وهو ما أدّى إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية.
– المفاوضات: واجهت الحكومة صعوبات في إعادة هيكلة ديونها بسبب العقوبات وعدم الاستقرار السياسي.
أوجه التشابه مع لبنان:
– شهد كلا البلدين أزمات اقتصادية حادّة مدفوعة بسوء الإدارة والفساد.
– تخلّف كلاهما عن سداد ديونهما السيادية ويواجهان تحدّيات في إعادة الهيكلة بسبب عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي.
في عالم التمويل كان إصدار سندات اليورو لفترة طويلة أداة حيوية للبلدان للحصول على العملات الأجنبية التي تشتدّ الحاجة إليها
التحدّيات والحلول المحتملة في لبنان
تسلّط هذه الأمثلة الضوء على مدى تعقيد أزمات الديون السيادية والمتعدّدة الأوجه، مع أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية. تقدّم كلّ حالة رؤى قيّمة حول التحدّيات والحلول المحتملة لبلدان مثل لبنان تتعامل مع قضايا مماثلة.
إقرأ أيضاً: اقتراحات لإنقاذ المشهد النقدي في لبنان
في غياب خطط إعادة الهيكلة بعد سنوات من التخلّف عن السداد، فإنّ نشاط التداول في سندات اليورو في أيّ بلد يبقى مقيّداً إلى حدّ كبير بانخفاض السيولة، وانخفاض الأسعار، والتحوّل نحو سوق يهيمن عليها مستثمرو الديون والمضاربون المتعثّرون.
يصبح السوق شديد التقلّب وأقلّ قابلية للتنبّؤ به، مع نشاط التداول الباقي، بسبب اندفاعه إلى حدّ كبير بالاعتبارات الانتهازية والاستراتيجية بدلاً من منطق الاستثمار التقليدي.
* باحث في الشؤون المصرفية والاقتصادية.