أكتوبر 1973 مع ما تلاه من وقائع سياسية حقّق إنجازاً لا جدال عليه، وهو إنهاء الحروب النظامية بين الدول العربية وإسرائيل، وإنجاز سلام مستقرّ بين مصر والأردن من جهة، وإسرائيل في الجهة المقابلة. وتوخّياً للدقّة في التوصيف فإنّ السلام المستقرّ كان بارداً، إلا أنّه في الجانب الحربي منه ظلّ صامداً وفعّالاً بصورة تكاد تكون مطلقة.
أكتوبر الأوّل والعمق الاستراتيجيّ
السلام الجزئي المستقرّ الذي أنجزته حرب أكتوبر 73 كانت نقطة ضعفه الرئيسية انعزاله عن عمق استراتيجي يفترض أن يتوافر بانخراط الجبهة الشمالية فيه، وكذلك انخراط الفلسطينيين الذين التحقوا متأخّرين بالتسوية، إلا أنّ محاولاتهم باءت بالفشل، وهو ما أنتج أكتوبر الثاني في عام 2023.
أكتوبر الثاني مع فوارق كثيرة في الزمان والمكان والنتائج، والانشغال الدولي، خصوصاً بعدما أفضى إلى حرب كبرى طويلة الأمد لم تتوقّف بعد، هذا “الأكتوبر” أثار سؤالاً لم يجد بعد إجابة تقريبية ولا قاطعة عنه.
هل حرب 2023 – 2024 ستكون مثل حرب أكتوبر 73 نهاية الحروب غير النظامية، التي اشتعلت وما تزال على معظم جغرافيا الشرق الأوسط؟
هنا يجدر التوقّف عند مبادرة الرئيس بايدن التي أعلنها بشأن وقف الحرب على غزة، والإشارة غير الواضحة بما يكفي إلى الأفق السياسي الذي سيبدأ العمل عليه في اليوم التالي لوقف الحرب.
مبادرة الرئيس بايدن إذا كانت كما نُشرت نهائية وجدّية، فهي أوّل مبادرة أميركية أُعدّت بعناية، ليس فقط لوقف إطلاق النار وإجراء تبادل للأسرى والمحتجزين على عدّة مراحل، وإنّما لما هو أساسي لليوم التالي، إذ تضمّنت ترتيبات دائمة تمنع قيام حروب جديدة بين غزة وإسرائيل، وفتح مسار تفاوضي مدعوم إقليمياً ودولياً، يُفترض أن يفضي إلى قيام دولة فلسطينية في إطار حلّ الدولتين، الذي تكرّس كصيغة إجماع عالمي لحلّ جذري للقضية الفلسطينية، كمركز للصراع العربي الإسرائيلي، الذي لم تُغلق ملفّاته بعد.
أكتوبر 1973 مع ما تلاه من وقائع سياسية حقّق إنجازاً لا جدال عليه وهو إنهاء الحروب النظامية بين الدول العربية وإسرائيل
مبادرة ورقصة التّانغو
مبادرة الرئيس بايدن تبدو كما لو أنّها رقصة التانغو التي يغيب عنها الشريك الحتمي، أو كأنّها تصفيق بيد واحدة، ما دام نتنياهو اللاعب الأساسي الذي يملك قدرات حقيقية لإعاقة الجهد الأميركي من ألفه إلى يائه.
هو أوّلاً ما يزال يحارب على أرض غزة، ويواصل الإعلان أنّه لن يتوقّف قبل تحقيق “النصر المطلق”، وهو ثانياً يصعّد حربة العميقة على الضفّة، التي هي أساس الحلّ السياسي للدولة الفلسطينية العتيدة، وهو ثالثاً يعمل بكلّ ما لديه من وسائل لإذابة قضية اللاجئين، التي هي أهمّ وأعمق عناصر الصراع في المنطقة، وهو أخيراً وليس آخراً مَن لديه خبرة مشهودة في مشاغلة الإدارات الأميركية وتفريغ مبادراتها من فاعليّتها، وما الذي يمنعه عن فعل ذلك حيال مبادرة بايدن الجديدة.
موضوعياً لا مشكلة بين الرئيس بايدن والطرف العربي في ما يتّصل بمواقفه المعلنة، بما في ذلك مبادرته الأخيرة، ولا حتى مع الفلسطينيين بعنوانَيْهم المحاربين والمفاوضين.
في ما يتّصل بنقطة البداية، أي وقف الحرب على غزة، فالعرب ليسوا موافقين على الموقف الأميركي وحسب، بل هم شركاء له بالجملة والتفصيل، وإذا كان لديهم من اعتراض أو شكوى أو تحفّظ، فهو على المبالغة الأميركية في إرخاء الحبل لنتنياهو ليحظى بالدعم الكامل، دون أن يكلّف نفسه مجاملة الدولة العظمى ببعض ليونة في سياساته الحربية تجاه غزة، وامتدادها إلى كلّ مكان تطاله أسلحة “جيش الدفاع”.
إقرأ أيضاً: مفاجآت غيّرت المسارات والمعادلات
هل يفضي أكتوبر 2023 إلى نتائج سياسية تُكمل ما بدأ به أكتوبر 1973؟ لا جواب يقينيّاً ولا حتى تقريبيّاً عن هذا السؤال، ففي أكتوبر الأوّل كانت اللعبة محصورة في قواها المباشرة، وقرارها كان بيد اللاعبين المباشرين كذلك، وأمّا أكتوبر الثاني فاللعبة اتّسعت أكثر وتعقّدت أكثر. هي لعبة المنطقة بأسرها، بل والعالم بأسره، ونقطة الضعف التي تستوجب الحذر أنّ أميركا 1973 ليست أميركا 2024.