مركز تكوين: القدس ليست القدس وصلاح الدين حقير

مدة القراءة 7 د

تجاوزت القضية حدّها. لم تعد حكاية تنوير للأجيال وتحديث للدين أو تطويره كما كان الأمر طوال القرنين المنصرمين. بل هو هجوم سياسي مضادّ بلَبوس فكري. الهدف منه إسقاط قلاع الأمّة العربية، خاصة من الداخل، أمام التغلغل الصهيوني في المنطقة تحت عنوان التطبيع والسلام. يتبيّن ذلك من نقطتين أساسيّتين هما أخطر ما يتبنّاه أحد أبرز مؤسّسي مركز “تكوين الفكر العربي” في مصر، الدكتور يوسف زيدان.

هو يقول منذ سنوات إنّ القدس ليست القدس الحالية لا تاريخياً ولا دينياً، في معمعة “طوفان الأقصى”، والمعنى أن لا قيمة لها لا في الخلاف بين المسلمين واليهود، ولا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ولا في القتال الجاري الآن، ويقول أيضاً إنّ أهمّ شخصية تاريخية تصدّت للغزو الصليبي قبل أكثر من ألف سنة والذي طال القدس وما حواليها، صلاح الدين الأيوبي، هو أحقر شخصية في التاريخ الإسلامي، واستطراداً، لا هو رمز ولا قدوة، بل إنّه لم يحرّر القدس بزعمه. وهذا ممّا يمكن الإفادة منه في السياق الراهن. هي أبعاد سياسية طاغية، تُرخي بظلال على مؤسّسة “تكوين” ومن فيها.

 

في المؤتمر الافتتاحي الذي عقدته مؤسّسة تكوين بمصر، في 4 أيار 2024، في الذكرى الخمسين لرحيل عميد الأدب العربي طه حسين، وحين كان الدكتور يوسف زيدان يعرّف زميله السوري فراس السوّاح للحضور، فاجأه بالقول: هو أفضل من طه حسين (توفّي عام 1973)، فما كان من السوّاح إلا أن ردّ بسرعة بديهة: أنا وأنت أفضل من طه حسين. تفاخرا على صاحب الذكرى، المُستَثمَر فيه لترويج انطلاقة المركز. وهذه إشارة سلبية منذ البداية، من شخصيات المؤسّسة، الغارقة في أوهام تغيير التاريخ، وإعادة تكوين الفكر العربي، والنجاح في ما فشل فيه الكبار السابقون، ومنهم طه حسين نفسه، الذي ابتدأ مسيرته الفكرية بصدمة التشكيك بما جاء في قصص القرآن عن الأنبياء عبر التشكيك بالشعر الجاهلي في كتابه الشهير: في الشعر الجاهلي، الصادر قبل 100 سنة تقريباً (1926).

أثار المركز زوبعة قويّة في الأوساط الفكرية والدينية، على الرغم من شهرة الشخصيات المؤسّسة للمركز وانتشار آرائهم قبل سنوات

في البداية، ليس مستغرباً إطلاق مؤسّسة تجمع رموز التنوير المعاصر كما يصفون أنفسهم، تحت اسم “مركز تكوين الفكر العربي”. الاستغراب أكثر هو من الانفعال الكبير لمناسبة إنشاء هذا المركز. إذ ما الذي سيحقّقه “تكوين” حين يجتمع مؤسّسوه من أكاديميين وإعلاميين ما لم يحقّقوه وهم فرادى، مع أنّهم كانوا في الأمس القريب ملء الأعين والأسماع، وبعضهم ما زال، ولهم حضورهم الذي لا يُمسّ، على الرغم من الدعاوى القضائية التي طالت إسلام بحيري عام 2015 وإبراهيم عيسى منذ عام 2020 بتهمة ازدراء الأديان؟ هل في الاجتماع قوّة إضافية لهذا التيار الحداثويّ المتطرّف الذي لم ينقطع منذ صدمة احتلال نابليون بونابرت لمصر (1798-1801)؟ وهل التوقيت مناسب الآن في زمن فضيحة الحداثة الغربية نفسها في عُقر دارها بسبب ما يجري في غزة منذ 8 أشهر، وتهافت هَرَم كامل من المزاعم والادّعاءات العريضة؟

لقد أثار المركز زوبعة قويّة في الأوساط الفكرية والدينية، على الرغم من شهرة الشخصيات المؤسّسة للمركز، وانتشار آرائهم قبل سنوات، لا سيما المصريين منهم. آراؤهم معروفة، وكتبهم منشورة، وبرامجهم قائمة، وهم يكرّرون انتقاداتهم للتراث وأهله، وللصحابة ولرموز الإسلام دون خوف ولا تردّد، عبر القنوات والمنصّات الإعلامية. فلماذا الذُّعر الآن، بعدما اجتمعوا هم ولفيفهم من شخصيات غير مصريّة، في مؤسّسة واحدة؟ هل يختلف الأمر نوعيّاً؟ وهل تزداد الكتب والمقالات عن ذي قبل، مع توافر المكان والمال، إضافة إلى الانتشار الإعلامي السابق؟ هل للإعلان علاقة وثيقة بالمكان، في أكبر بلد عربي من حيث السكّان، تجتمع فيه العراقة والدور الاستراتيجي؟ أم له علاقة بالتوقيت، في قلب حرب وجودية ودموية في قطاع غزّة الذي كان دائماً جزءاً من المجال الحيوي المصري، بوّابة العبور لأيّ غازٍ لأرض الكنانة؟

 ليس مستغرباً إطلاق مؤسّسة تجمع رموز التنوير المعاصر كما يصفون أنفسهم تحت اسم “مركز تكوين الفكر العربي”

هل دور المركز المذكور حقّاً تلافي الثغرات التي طرأت على روّاد الحداثة في العالم العربي على مدى قرنين كما ورد في صفحة المركز في الإنترنت؟ وما هي هذه الثغرات؟ هل كان الأوائل مثلاً أكثر حياء وتردّداً في المسّ بالثوابت الدينية والرموز المبجّلة من صحابة وفقهاء ومحدّثين وقادة عسكريين وخلفاء، فيما هم أكثر جرأة وجسارة في اقتحام المجال المحظور في الإسلام، متسلّحين بثورة الاتصالات وسرعة تداول المعلومات ولو كانت مجرّد أقاويل؟ بل حتى لو كان ما يقول يوسف زيدان ورفاقه عن سلف الأمّة التي صنعوا أمجادها قريباً من الواقع أو عينه، فما الهدف من تحطيم “الأساطير” المؤسّسة لهذه الأمّة، لو كانت مجرّد أساطير؟ بالمقارنة، هل رأيت دولة غربية تحطّم أساطيرها؟

التنويريّون الجدد

من هم الأعضاء المؤسّسون لمركز تكوين؟ وما هي أبرز آرائهم؟

تكوين

يُعتبر الدكتوران يوسف زيدان (المصري) وفراس السوّاح (السوري)، الثقل الأكاديمي في المركز. فالأوّل اشتهر بروايته عزازيل لعام 2008، والتي فازت بجائزة بوكر للرواية عام 2009، وقد أثارت غضب الكنيسة القبطية. وهو قبل ذلك، مختصّ بتحقيق المخطوطات، ومهتمّ بالتصوّف. أمّا الدكتور فراس السواح، فهو من الباحثين المتعمّقين بالميثولوجيا (علم الأساطير) وبالأديان ومقارنتها. عُرف بكتابه مغامرة العقل الأولى – دراسة في الأسطورة، سورية وبلاد الرافدين (1976)، وعشرات الكُتب الأخرى على المنوال نفسه. وعُرف عنه منذ البداية تنكّره لقدسية الأديان، معتبراً إيّاها مجرّد أساطير اخترعها البشر. وفي المرتبة التالية، تبرز الدكتورة التونسية ألفة يوسف، وهي متخصّصة في اللغة العربية واللسانيّات. وأطروحتها تحوم حول تعدّد المعنى في القرآن (2003). وهي بارعة بالتلاعب اللغوي واللعب على آراء الفقهاء واجتهاداتهم لضرب الأحكام الفقهية. أمّا كتابها الأكثر إثارة للجدل، فهو حيرة مسلمة: في الميراث والزواج والمثليّة الجنسية (2008)، وأبرز ما فيه اعتبار المثلية الجنسية كالزواج العاديّ.

أخطر ما يتبنّاه أحد أبرز مؤسّسي مركز “تكوين الفكر العربي” في مصر، الدكتور يوسف زيدان. هو يقول منذ سنوات إنّ القدس ليست القدس الحالية

بعد ذلك، يأتي الإعلاميان إسلام بحيري وإبراهيم عيسى، والاثنان تعرّضا لدعاوى قضائية بتهمة ازدراء الأديان. الأوّل عام 2015 بسبب ما قاله في برنامجه التلفزيوني (مع إسلام بحيري) في قناة “القاهرة والناس”، عامَي 2014 و2015، من دعوات لإسقاط الأحكام الشرعية، ودعوته إلى حرق صحيحَي البخاري ومسلم في الحديث النبوي، وغير ذلك. أُوقف برنامج بحيري وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات، ثمّ خُفّف الحكم إلى سنة واحدة، ثمّ عُفي عنه عام 2016. والثاني عام 2022 عندما نفى الإسراء والمعراج في قناة فضائية مصرية، معتبراً إيّاها قصّة وهمية، وزاد أنّ على الناس فهم الدين بأنفسهم دون الاستعانة برجال الدين، لأنّهم يضحكون عليهم. وقد استُدعي إبراهيم عيسى إلى النيابة العامّة، وانتهى الأمر بتوضيح منه، أنّه لم يقصد التشكيك بالدين. وما يجمع بين بحيري وعيسى، مسيرتهما المهنية المضطربة. فإسلام بحيري بدأ حقوقياً فاشلاً ثمّ نال الماجستير في جامعة ويلز ببريطانيا تحت عنوان: “طرائق التعامل مع التراث”.

إقرأ أيضاً: كريم خان يبرّئ إسرائيل من تهمة الإبادة

أمّا إبراهيم عيسى فهو إعلاميّ سلك طُرُقاً صداميّة في البداية مع نظام الرئيس السابق حسني مبارك، وتعرّض للملاحقة القضائية، وحُكم عليه بالسجن عام 2006 لسنة واحدة، ثمّ خُفّف الحكم إلى غرامة. ثمّ حُكم عليه بالسجن سنةً عام 2007 لنشره خبراً عن صحّة الرئيس، ثمّ خُفّف الحكم، وعفا عنه الرئيس مبارك عام 2008. وانتقل من كتابة الروايات إلى إصدار الكتب في التاريخ الإسلامي، ومنها كتاب رجال بعد الرسول الصادر عام 2005، وهو عبارة عن حلقات تلفزيونية في قناة دريم. والمفارقة أنّه في هذا الكتاب يمدح سيرة الصحابة ولا يذمّهم كما بات يفعل لاحقاً في برنامجه “مختلف عليه” على قناة الحرّة.

أمّا الدكتورة اللبنانية نايلة أبي نادر، العضو في مجلس الأمناء، فهي مختلفة بهدوئها الأكاديمي، وعملها الرئيسي هو “التراث والمنهج بين أركون والجابري” الصادر عام 2008.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…