كريم خان يبرّئ إسرائيل من تهمة الإبادة

مدة القراءة 10 د

مع أنّ المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية كريم خان ساوى نظرياً بين المتهمَيْن الإسرائيليَّيْن: رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت والمتّهمين الثلاثة من حركة حماس: إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي، ويحيى السنوار قائد حماس في غزة، ومحمد ضيف القائد العام لكتائب عزّ الدين القسّام، إلا أنّه لتمهيد الطريق نحو اتّهام قادة إسرائيل بارتكاب الجرائم، لا سيما تجويع المدنيين، والقتل العمد لهم، تبنّى السردية الإسرائيلية حول ما جرى في غلاف غزة في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وذلك بقراءة معمّقة لتصريح خان في 20 أيار الحالي. وهذا ما جعل القضية المرفوعة من جنوب إفريقيا في الإطار الإسرائيلي المرسوم مسبقاً لسير الأحداث. حماس والفصائل الأخرى، وفق الادّعاء، هي التي ارتكبت الجرم الأصلي بهجومها على المستوطنات، فكانت أفعالها غالباً من نوع الجرائم ضدّ الإنسانية. أمّا إسرائيل فانتهكت قوانين الحرب دولياً ومحلّياً، أثناء ممارسة حقّها المشروع في الدفاع عن النفس، فأفعالها غالباً وفق نصّ الادّعاء هي جرائم حرب. باختصار، تتعامل المحكمة مع هجوم المقاومة مبتوراً عن الجريمة الإسرائيلية المتمادية لأكثر من 76 سنة، وهو احتلال أرض الغير، وانتهاك حقوق السكّان الواقعين تحت الاحتلال، عن طريق الحصار الاقتصادي، وسلب الأراضي، والاعتقال من دون محاكمات أحياناً كثيرة، والقتل خارج القانون..

 

 

 

قبل إظهار الفرح والحبور بإصدار مذكّرة اعتقال لأرفع مسؤولين في دولة إسرائيل، بتهمة ارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم حرب، والتي ستكون إنجازاً تاريخياً لو نجحت المحكمة في التملّص من الضغوط الهائلة التي تمارسها الولايات المتحدة وكبرى الدول الأوروبية على أعضاء المحكمة، لا سيما المدّعي العام، لا بدّ أوّلاً من التمييز بين المصطلحات المستخدمة في نصّ الادّعاء، بشأن نوع الجرائم المرتكبة، حتى نلمس خطورة الجرائم المنسوبة إلى المقاومة الفلسطينية بالمقارنة مع جرائم منسوبة إلى إسرائيل. فالإبادة الجماعية Genocide هي الجريمة الأخطر، وتليها الجريمة ضدّ الإنسانية Crime against humanity، وأخيراً جريمة الحرب War crime.

كريم خان، اتّهم قادة حماس الثلاثة، بأربعة أفعال تندرج تحت عنوان الجرائم ضدّ الإنسانية، وهي القتل الجماعي، الاغتصاب، التعذيب، وأفعال لاإنسانية أخرى

جريمة الإبادة

– أوّلاً، جريمة الإبادة. في 9 كانون الأول عام 1948، تبنّت الجمعية العامة بالإجماع “اتفاقية تجنّب ومعاقبة جريمة الإبادة” أو (CPPCG)، وهي معاهدة دولية دخلت حيّز التنفيذ في 12 كانون الثاني عام 1951، وانضمّ إليها حتى عام 2022، 152 دولة. وتعرّف المعاهدة مصطلح الإبادة، فتقول إنّها “كلّ فعل يُقصد منه تدمير مجموعة قومية ما، أو عرْقية، أو دينية، كلّياً أو جزئياً”. وتكون الإبادة بخمسة أفعال:

1- قتل أفراد هذه المجموعة.

2- التسبّب للمجموعة بأذى جسيم جسدياً أو نفسياً.

3- فرض ظروف معيشية معيّنة لتدمير هذه المجموعة.

4- تجنّب حدوث ولادات في المجموعة.

5- والتسفير القسري للأطفال خارج المجموعة. ويكون الناس مستهدَفين عمداً بسبب انتمائهم الحقيقي أو المتخيّل إلى مجموعة ما، وليس استهدافاً عشوائياً.

تبرير المدّعي العام للمحكمة

كلّ هذه الأفعال ارتكبتها إسرائيل في قطاع غزة، لأكثر من 7 أشهر من خلال القتل المتعمّد للفلسطينيين بسبب انتمائهم، ونسف كلّ مقوّمات هذه المجموعة من مساكن ومستشفيات وجامعات ومدارس وآثار ومؤسّسات وبنى تحتية ضرورية، وإيصال السكّان إلى حافة الدمار الشامل بحرمانهم من الغذاء والدواء والاستشفاء وكلّ مستلزمات حياة الإنسان. كما أنّ قتل الأطبّاء والممرّضين والمرضى وتدمير المستشفيات حالة شائعة في الحرب الحالية، وهو ما يؤدّي إلى حرمان الفلسطينيات الحوامل من الولادة الآمنة، ومن رعاية الأطفال الحديثي الولادة، فضلاً عن فقدان عدد من الأطفال الذين خسروا آباءهم بالقصف الشامل للمساكن، وقد رُحّل بعضهم إلى إسرائيل.

هناك شواهد كثيرة جدّاً تُثبت ارتكاب إسرائيل لعناصر جريمة الإبادة الجماعية، لكنّ المدّعي العام في حوار له مع قناة “سي إن إن” يبرّر عدم اتّهام إسرائيل بالإبادة بعدم توافر النيّة لديها، في القتل وسواه، بمعنى التخلّص من مجموعة معيّنة، بسبب انتمائها العرقي أو الديني. وذلك على الرغم من التصريحات العلنية لمسؤولين إسرائيليين، ومنهم وزراء في الحكومة الحالية، التي تؤكّد نيّة الإبادة، فضلاً عن الأفعال المنهجية وغير العشوائية.

نتنياهو وغالانت فهما متّهمان بأربع جرائم حرب لم ترقَ عند كريم خان لتكون جرائم ضدّ الإنسانية أو جريمة إبادة

الجرائم ضدّ الإنسانية

– ثانياً، الجرائم ضدّ الإنسانية. هذا المصطلح وإن كان شائعاً استعماله في المحاكم الجنائية الدولية، إلا أنّه لم يُقنّن بعد بنصّ معاهدة دولية خاصة به، بخلاف جريمة الإبادة وجرائم الحرب. ولا يُعرف متى بدأ استعمال هذا المصطلح، لوصف أفعال جرمية بعينها. لكنّ بعض الباحثين يُرجعون أصل المصطلح إلى أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، وذلك حين أُطلق على الانتهاكات التي ارتكبها المستعمرون الأوروبيون في القارّة الإفريقية وسواها من المناطق. لكنّ اتفاقية روما التي أنشأت المحكمة الجنائية الدولية التي تنظر في القضية المرفوعة من جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل، وضعت تعريفاً للجريمة ضدّ الإنسانية، في المادة السابعة من الاتفاقية، وهي كلّ فعل يتضمّن:

1- القتل.

2- القتل الجماعي.

3- الاستعباد.

4- الترحيل القسري للسكّان.

5- الاعتقال أو الحجز القسري لحرّية الأفراد انتهاكاً للمعايير الأساسية للقانون الدولي.

6- التعذيب.

7- الاغتصاب، والاستعباد الجنسي، والدعارة القسرية، والتسبّب القسري بالحمل، والتعقيم القسري، أو أيّ شكل من العنف الجنسي.

وممّا جاء في نصّ المدّعي العام ضدّ القادة الثلاثة لحركة حماس، فإنّ التهمة الأساسية هي العنف الجنسي. وهي مزاعم إسرائيلية تحوم حولها شكوك كبيرة حتى في تقارير إعلامية إسرائيلية، في حين أنّه ظهرت اتّهامات كثيرة نحو الجانب الإسرائيلي بارتكاب العنف الجنسي ضدّ الفلسطينيين ذكوراً وإناثاً سواء أثناء الاعتقال في غزة، أو في السجون، ولم تقُم المحكمة الدولية باستجواب الضحايا الفلسطينيين كما فعلت مع الإسرائيليين.

بالدرجة الثانية، يأتي فعل اختطاف أو اعتقال المدنيين الإسرائيليين، كي يتشكّل الاتّهام بالجريمة المذكورة ضدّ قادة حماس، مع أنّ الحركة أعلنت نيّتها منذ اللحظة الأولى إطلاق سراحهم مقابل إطلاق سراح المدنيين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وأفرجت عن عدد من المدنيين الإسرائيليين في عملية التبادل الأولى، ولم تكن هي التي عرقلت استكمال إطلاق سراح البقيّة، بل إنّ إسرائيل عرقلت عمداً إتمام الصفقة التالية، لأسباب سياسية وعسكرية بحتة. فهي رفضت طويلاً عودة الفلسطينيين إلى شمال القطاع، وهو مطلب فلسطيني أساسي، ويلبّي الحقوق الإنسانية المعترف بها، كما رفضت إسرائيل إبرام وقف دائم لإطلاق النار، على الرغم من المعاناة الرهيبة التي يعاني منها سكّان القطاع، جرّاء ارتكاب إسرائيل جرائم ضدّ الإنسانية وجرائم الحرب، بنصّ الادّعاء الدولي نفسه.

ممّا يتبيّن من نصّ الادّعاء فإنّه لا توجد اتّهامات لإسرائيل بقتل الأسرى وإعدامهم ميدانياً، على الرغم من الحوادث الكثيرة التي تتالت بشكل متسارع

جريمة الحرب

– ثالثاً، جريمة الحرب. بدأ هذا المصطلح بالظهور في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، عندما سُنّ القانون الدولي الإنساني، والمعروف أيضاً بقانون الصراع المسلّح. وتبنّت اتفاقيات لاهاي في عامَي 1899 و1907 معايير لمنع الأطراف المتصارعة من استخدام بعض الوسائل والطرائق في القتال. في حين أنّ معاهدات أخرى، مثل اتفاقية جنيف لعام 1864 واتفاقيات فيينا اللاحقة، لا سيما الاتفاقيات الأربع عام 1949، والبروتوكولين الإضافيين عام 1977، ركّزت على حماية الأفراد الذين لم يكونوا طرفاً في الصراع (المدنيين)، أو الذين لم يعودوا طرفاً فيه (الجنود الأسرى). وممّا يتبيّن من نصّ الادّعاء فإنّه لا توجد اتّهامات لإسرائيل بقتل الأسرى وإعدامهم ميدانياً، على الرغم من الحوادث الكثيرة التي تتالت بشكل متسارع خلال الحرب الدائرة في غزة، عن اعتقال فلسطينيين وقتلهم بعد أسرهم أحياء، فضلاً عمّا كشفته المقابر الجماعية حول المستشفيات، من قتل أسرى وهم مقيّدون.

مقارنة إجماليّة

بالإجمال فإنّ المدّعي العام، كريم خان، اتّهم قادة حماس الثلاثة، بأربعة أفعال تندرج تحت عنوان الجرائم ضدّ الإنسانية، وهي القتل الجماعي، والاغتصاب وغيره من العنف الجنسي، والتعذيب في سياق الأسر، وأفعال لاإنسانية أخرى. فيما اتّهمهم بستّة أفعال تُصنّف بأنّها جرائم حرب، وهي كذلك جرائم ضدّ الإنسانية، إلى جانب أخذ الرهائن، والمعاملة القاسية، والاعتداء على الكرامة الإنسانية، علماً أنّ خان يؤكّد أنّ جرائم الحرب المزعومة هنا ارتكبت في سياق نزاع مسلّح دولي بين إسرائيل وفلسطين، ونزاع مسلّح غير دولي بين إسرائيل وحركة مسلّحة هي حماس، وأنّ الجرائم ضدّ الإنسانية المتّهم بها قادة حماس كانت جزءاً من هجوم واسع النطاق ومنهجي ضدّ السكّان المدنيين في إسرائيل من قبل حماس وغيرها من الجماعات المسلّحة، وبعض هذه الجرائم لا تزال مستمرّة.

أمّا نتنياهو وغالانت فهما متّهمان بأربع جرائم حرب لم ترقَ عند كريم خان لتكون جرائم ضدّ الإنسانية أو جريمة إبادة، وهي تجويع المدنيين، والتسبّب عمداً في معاناة شديدة أو إصابة خطيرة للجسم أو الصحّة، والقتل العمد، وتعمّد توجيه هجمات ضدّ سكّان مدنيين. وهما متّهمان أيضاً بثلاثة أنواع من الجرائم ضدّ الإنسانية، وهما القتل الجماعي، والاضطهاد، والأفعال اللاإنسانية الأخرى التي تتعارض مع المادة 7 من اتفاقية روما.

إقرأ أيضاً: كريم خان دقّ ساعة محاسبة نتنياهو

بناء على ما سبق، يبدو انحياز المدّعي العام إلى السردية الإسرائيلية للحرب الجارية، مع الاستماع إلى الشهود والضحايا الإسرائيليين، دون الاستماع إلى الطرف الفلسطيني، شهوداً وضحايا، ربّما لعدم الإمكانية، أو لاستحواذ إسرائيل على الأدلّة والشهود، ومحوها بكلّ الوسائل، ومنع المحقّقين من دخول السجون والمعتقلات الإسرائيلية وحظر دخول غزة نفسها، أو جعله خطراً للغاية، حيث الاعتماد في نهاية المطاف هو على ما تبثّه وسائل التواصل الاجتماعي كما القنوات الإعلامية التي تتعرّض لاستهداف ممنهج، لقتل الشهود أيضاً، وردعهم.

مع كلّ ذلك، لم يرضَ القاتل، ولا من يرعاه من دول كبرى. ثمّة غضب عارم من مساواة إسرائيل بحركة مسلّحة هي حماس. ثمّة غضب من نوع آخر، وهو أنّ ادّعاء المحكمة يعرقل المفاوضات وصفقة التبادل، وأين هو الاتّفاق؟ الأسوأ من ذلك، اتّهام المحكمة باللاساميّة، في حين أنّها قبل 14 شهراً، أصدرت مذكّرة اعتقال ضدّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتهمة الترحيل القسري لأعداد من الأطفال الأوكرانيين إلى روسيا. وجاء الاتّهام آنذاك مع مذكّرة الاعتقال بدعم شديد من واشنطن وترحيب حارّ من العالم الحرّ.. لم يبقَ شيء يُغطّي عورة هذا العالم.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@HishamAlaywan64

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…