المستجدّ في زيارة جان إيف لودريان دعوته الفرقاء اللبنانيين إلى انتخاب رئيس ضمن مهلة تنتهي في شهر تموز المقبل. فبعد هذا التاريخ، وفق حسابات لودريان وغيره، ستنشغل كلٌّ من دول العالم عن لبنان بانتخابات ستغيّر اهتماماتها مع تغيير هويّة اللاعبين. الوسيط الفرنسي قال ما يعنيه من وراء هذه المهلة، فاستنتج البعض أنّ ملء الفراغ الرئاسي سيُرحَّل إلى 2025 على الأقلّ.
لم يكن جديد الموفد الرئاسي الفرنسي تنبيهه إلى أنّ “لبنان السياسي” سينتهي ولن يبقى سوى “لبنان الجغرافي”. سبق أن حذّر حين كان وزيراً للخارجية من أنّ لبنان معرّض “للاختفاء”. وبعدها قال عبارته الشهيرة بأنّ البلد مثل “التايتانك” ذاهب إلى الغرق. هذه العبارات بعضها مرادفة لبعض. أبسط تفسيراتها أنّ هناك خطراً على الصيغة اللبنانية، إذا استعصت الحلول الداخلية لأزمة لبنان، وستسوء أحواله أكثر.
الإيجابيّات والعرقلة صارت علنيّة
الإيجابية الوحيدة لزيارة لودريان بيروت أنّ مواقف الفرقاء “باتت علنية بعدما كان بعضها مضمراً”، حسب مصدر دبلوماسي فرنسي لـ”أساس”. جاء ذلك في سياق إقرار المصدر بأن لا خرق جوهرياً في الخطوات المطلوبة، وأن ليس ما يدلّ على حلحلة داخلية. ومن هذه المواقف:
1- أنّ الرئيس نبيه بري الذي سبق أن وافق اللجنة الخماسية على صيغة “التشاور” بدل الحوار، تمسّك بجوهر مبادرته. تلقّى لودريان خبر بيان برّي وهو في السيارة بُعيد لقائه به. رئيس البرلمان أوضح لاحقاً أنّ التشاور برئاسته خلافاً لاستعداده لتكليف نائبه الياس بوصعب أن يرأسه. وهذا بذاته يرفضه رموز في المعارضة، وفي طليعتهم رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع بحجّة أنّ برّي طرف. أي أنّ كلّ فريق يقترح أمراً لإدراكه المسبق بأنّ الخصم سيرفضه حتماً. وهذا ما يجعل التعطيل المتبادل علنيّاً. فجعجع رفض “تكريس أعراف خارج الدستور” عندما حدّثه لودريان عن إيجابيّتين جاء بهما من لقائه مع برّي هما:
نصيحة لودريان باستعجال انتخاب رئيس قبل نهاية تموز تستند إلى توقّع انشغال الدول المهتمّة بلبنان بعد هذا التاريخ
– قبول برّي التشاور بدل الحوار.
– تأكيد برّي ورئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد الفصل بين الوضع في الجنوب وفي غزة وبين الرئاسة. وهذا عاد وأعلنه نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم. لكنّ رعد أكّد على الحوار برئاسة برّي.
ماذا قال لفرنجيّة؟
2- أنّ مرشّح برّي والحزب للرئاسة رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية استبق وصول لودريان بالتأكيد أنّه لن ينسحب. وبعث برسائل في كلّ الاتّجاهات حول تحالفاته المحلّية والإقليمية وانفتاحه. صحيح أنّ لودريان لم يطلب منه الانسحاب، لكن لم يفُته القول له: “لا أرى كيف يمكن أن تنجح”، قاصداً نجاحه بالاقتراع.
بعيداً عن التقويم الفرنسي في شأن تحوّل المواقف إلى علنيّة يمكن تسجيل الآتي من ضمن حصيلة مداولات الوسيط الفرنسي:
– لودريان تحدّث بثبات أمام قوى المعارضة وكتلة “الاعتدال الوطني” عن ضرورة الانتقال إلى “المرشّح الثالث” للرئاسة. لكنّه لم يفعل ذلك مع برّي ورعد.
فصل أم ربط بين الرئاسة والجنوب وغزّة؟
– أنّ جعجع وفريقه أبلغا الوسيط الفرنسي عدم الاقتناع بأنّ الحزب يفصل بين الحرب في غزة والجنوب وبين الرئاسة. وخلال النقاش لم يخفِ لودريان اعتقاده بأنّ الحزب يربط بين المسألتين. وهي قناعة تتشارك فيها قوى أخرى تؤيّد “التشاور” ولو برئاسة برّي، إذ تقرّ بأنّ الحزب غير مستعجل بانتظار نتائج الحرب. بل إنّ مصادر فرنسية تتساءل عمّا إذا كان الحزب مستعدّاً فعلاً لتقديم تنازلات في الرئاسة، وهو في خضمّ حرب يخوضها. وبالتالي تستبعد ذلك.
– هدف زيارة لودريان إبلاغ الرئيس إيمانويل ماكرون بآخر مستجدّات الأزمة السياسية. فالأخير سيبني عليها ما سيقترحه حول لبنان، على نظيره الأميركي جو بايدن في لقائهما في باريس بعد احتفالات النورماندي السنويّة. وألمح إلى أنّه لو استخلص تقارباً بين الفرقاء، ينهي الشغور الرئاسي، لكان ماكرون سيطرح خطة دعم مشتركة للبلد. لكن كيف يمكن تجاوز الاستعصاء اللبناني الداخلي، إذا لم تنفع تحرّكات الخماسية التي استند لودريان إلى خريطة طريق بيانها الأخير؟
المستجدّ في زيارة جان إيف لودريان دعوته الفرقاء اللبنانيين إلى انتخاب رئيس ضمن مهلة تنتهي في شهر تموز المقبل
خطورة انتخاب ترامب..
نصيحة لودريان باستعجال انتخاب رئيس قبل نهاية تموز تستند إلى توقّع انشغال الدول المهتمّة بلبنان بعد هذا التاريخ. أوروبا تنتخب برلمانها بين 6 و9 حزيران الجاري، ويتبع ذلك انتخاب المفوضية الجديدة ورئاستها، وتحديد توجّهاتها وفرنسا في صلبها. إيران تنتخب رئيسها الجديد في 28 حزيران الجاري ويتبع ذلك رسم سياستها المقبلة. إسرائيل مقبلة على تغييرات حكومية منتظرة جرّاء الخلافات الداخلية. والأهمّ أنّ أميركا تبدأ حملة انتخاباتها الرئاسية رسمياً أواخر تموز. وستغرق في هذا الخضمّ حتى 5 تشرين الثاني ووصولاً إلى تنصيب الفائز مطلع كانون الثاني، ثمّ تشكيل الإدارة الجديدة وتحديد التوجّهات.
لا تقتصر الخشية الفرنسية من إهمال لبنان على هذه الاستحقاقات التي تشغل الدول المعنيّة به. فإضافة إلى أولويّات تتعلّق بأزمات أخرى عالمية وإقليمية، هناك همٌّ آخر في الحسابات: التهيّؤ لاحتمال فوز دونالد ترامب. فرنسا من الدول التي تتهيّب ذلك لأسباب تعدّ ولا تحصى بدءاً بالتجربة الأوروبية السلبية مع الرئيس السابق.
تهيّؤ إسرائيل وإيران لنجاح ترامب
ينبّه سياسيون لبنانيون متابعون بدقّة لانعكاسات هذا الاحتمال، إلى جملة مؤشّرات تؤثّر على التعاطي مع أزمة البلد المتشابكة مع الإقليم:
– بنيامين نتنياهو يطيل الحرب بانتظار مجيء صديقه إلى البيت الأبيض. بذلك يتفادى الضغوط التي تضطرّ إدارة بايدن وبعض أوروبا إلى ممارستها على أدائه في غزة، وعلى مواجهته لإيران وأذرعها، ومنها الحزب. وهو يتطلّع إلى ترامب، وكلّما مرّ يوم قبل الانتخابات، تخفّ قدرة بايدن على الضغط على إسرائيل.
– من الدلائل في ما يتعلّق بلبنان أنّ نتنياهو يتجنّب في كلّ مرّة يزور الوسيط الأميركي حول الجنوب آموس هوكستين إسرائيل، لا يستقبله نتنياهو. يلتقي وزير الدفاع يوآف غالانت أو غيره. بالمقابل التقى نتنياهو في 21 أيار مستشار الأمن القومي السابق لترامب، روبرت أوبراين، يرافقه سفيران سابقان في عهد ترامب.
ينبّه سياسيون لبنانيون متابعون بدقّة لانعكاسات هذا الاحتمال إلى جملة مؤشّرات تؤثّر على التعاطي مع أزمة البلد المتشابكة مع الإقليم
– إيران التي تتمنّى نجاح بايدن إلى درجة توقّع أن تشجّع لوبيات إسلامية وشيعية أميركية على التصويت له، تخشى ترامب. فلماذا تقدّم تنازلات، يمكن أن تشمل لبنان والرئاسة فيه لإدارة مرشّحة للأفول؟ والمرشد علي خامنئي سبق أن أصدر مواقف تشجّع انتفاضة الطلاب في أميركا.
حتى هوكستين قد يغيب؟
– يذهب المتابعون لاحتمالات الانتخابات الأميركية والمنشغلون بها إلى أنّه قد يتمّ إهمال مهمّة هوكستين في شأن الجنوب. فهو جمّد زياراته نظراً إلى قناعته بصعوبة إنجاز أيّ أمر ما دام الحزب يربط التفاوض جنوباً بوقف حرب غزة.
– حتى لو تطلّب تصعيدٌ محتمل على الجبهة الجنوبية أن يظهر هوكستين مجدّداً، فإنّ التفاوض حول وضع الجنوب مؤجّل حتى 2025. هذا على الرغم من التقدّم الذي أحرزه في شأن مسألة إظهار الحدود البرّية بالاتفاق مع الرئيس بري في زيارته الأخيرة. يقول المتابعون للسياسة الأميركية الداخلية إنّ هوكستين يهيّئ نفسه في كلّ الأحوال لمغادرة الإدارة بعد الانتخابات. وقد ينتقل أواخر هذا العام إلى القطاع الخاص، كخبير مهمّ في شؤون الطاقة. وجرى تعيين بديل لمسؤولة مكتب لبنان في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، نادين زعتر. فهي كانت مساعدته في صوغ أوراق الاقتراحات التي ناقشها مع بري. ويزور البديل بيروت قريباً للاستطلاع.
إقرأ أيضاً: هدنة غزة لرئاسة أميركا والـ1701 لرئاسة لبنان؟
– تحدّث هوكستين أول من أمس في مؤسّسة “كارنيغي” في واشنطن عن لبنان، ولم يشِر إلى إمكان عودته إلى التوسّط مع إسرائيل. اكتفى بالحديث عن إمكان التوصّل إلى اتّفاق على الحدود البرّية بين إسرائيل ولبنان على مراحل. ورأى أنّه قد يخفّف من الصراع المحتدم بين البلدين.
قد ينخفض الاهتمام الخارجي بلبنان بعد تموز، لكنّ سفراء الخماسية سيُبقون أعينهم على الوضع فيه من باب المتابعة لا أكثر. إلا أنّ البلد سيفقد زخم هذا الاهتمام.
لمتابعة الكاتب على X: