على منوال ما قامت به في العراق ولبنان واليمن وسوريا، تُصدّر إيران نفوذها إلى إفريقيا. تجمع هناك بين استغلالها لأداة الدولة التقليدية حيثما تسمح الظروف الداخلية في كلّ بلد، أو من خلال استثمارها في الجماعات شبه العسكرية والأحزاب العقائدية.
مع وصول الخميني إلى الحكم عام 1979، انشغلت إيران بحربها مع العراق، ثمّ ركّزت اهتمامها على الدول المجاورة وتمكنّت من ذلك، لا سيما خلال ولايتَي باراك أوباما الذي أراد تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة واتّباع سياسة “احتواء إيران” بدلاً من مواجهتها. خلال تلك السنوات، لم تكن إفريقيا متقدّمة في قائمة أولويّات طهران إلى حين استقرار نفوذها في الشرق الأوسط.
خلال عهد حسن روحاني، لم يقُم الأخير خلال ثماني سنوات قضاها في منصبه برئاسة الجمهورية بزيارة واحدة لدولة إفريقية على الرغم من إجرائه 55 زيارة خارجية. لكنّ حضور القارّة الإفريقية في السياسة الخارجية الإيرانية عاد للظهور مع حاجة الحرس الثوري إلى توسيع انتشاره استغلالاً لما قد يتاح له من نفوذ، فأوعز إلى إبراهيم رئيسي بزيادة عدد السفارات الإيرانية، فوصلت إلى 22 سفارة في القارّة السمراء تعويضاً عن إقفال بعض سفارات إيران في أوروبا، وتقليلاً من العزلة الخارجية، وقام شخصياً بزيارات لدول إفريقيا.
مردّ هذا الاهتمام من قبل الحرس الثوري الإيراني بالقارّة الإفريقية أسباب عدّة، من بينها أنّ تلك الدول غنيّة بموادّ أوّلية، ومنها مادّة اليورانيوم، وأخرى جيو- سياسية وأمنيّة وعسكرية.
خلال عهد حسن روحاني، لم يقُم الأخير خلال ثماني سنوات قضاها في منصبه برئاسة الجمهورية بزيارة واحدة لدولة إفريقية
القرن الإفريقيّ
وضع الحرس الثوري أولويّات استراتيجية في القارّة الإفريقية أساسها تقوية الحضور الأمنيّ وتقديم الدعم العسكري للدول الهشّة، خاصة الدول التي تواجه تمرّدات مسلّحة أو انقلابات عسكرية متتالية أو تلك التي تتطلّع إلى إنهاء الوجود الفرنسي والأميركي على أراضيها. ومن الأمثلة البارزة ما قدّمته إيران لإثيوبيا خلال الصراع في منطقة تيغراي، وتزويد حكومة آبي أحمد بطائرات من دون طيار. ولم تكن إثيوبيا الدولة الوحيدة، إذ حصل السودان أيضاً على مسيرّات “هاجر 6″، الأمر الذي دفع بحكومة الخرطوم لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع طهران بعد انقطاع دام 7 سنوات.
تسعى إيران إلى تعزيز حضورها الأمنيّ والعسكري في كامل القارة، غير أنّها مرحليّاً تركّز على تقوية نفوذها في شرق القارّة، لا سيما في القرن الإفريقي تعزيزاً لما تسمّيه “محور المقاومة”.
يرى الحرس الثوري في هذه المنطقة مجالاً واسعاً لأنشطته العسكرية والسياسية والاقتصادية، فكرّس اهتماماً خاصّاً بالدول المطلّة على ساحل خليج عدن وبحر العرب والبحر الأحمر. وذلك للأهمّية الجغرافيّة لمنطقة باب المندب الموازية بفاعليّتها لمنطقة مضيق هرمز استراتيجياً وعسكرياً وتجارياً ودولياً. وهو ما يضفي نفوذاً إقليمياً ودولياً لإيران، ويؤهّلها للتحكّم والتأثير في أمن واستقرار مضيقَي هرمز وباب المندب معاً، فتتمكّن من توسيع “جغرافيا الممانعة” بحيث تتولّى إدارة الصراعات والحروب خارج نطاق أراضيها وحدودها وجغرافيتها.
يرتدي الموقع الاستراتيجي للقرن الإفريقي أهمّية خاصة في طموحات التوسّع الإيرانية، ويجعل كلّاً من إريتريا ودجيبوتي والصومال والسودان دول جذب لطهران للتأثير في الحرب الدائرة في البحر الأحمر، وفي مدى قدرة الحوثي في اليمن على الاستمرار بتهديداته.
جعلت السياقات الاستراتيجية في الشرق الأوسط إيران لاعباً فعّالاً في القرن الإفريقي وفي محيط البحر الأحمر، وسمحت لها بالتحكّم بالمضائق الأهمّ للتجارة الدولية.
وضع الحرس الثوري أولويّات استراتيجية في القارّة الإفريقية أساسها تقوية الحضور الأمنيّ وتقديم الدعم العسكري للدول الهشّة
مضيق جبل طارق
حرب البحر الأحمر كانت مفاجأة لدول العالم، إذ أظهرت قدرة جماعة الحوثي على إغلاق ممرّ باب المندب مباغتةً للمجتمع الدولي ولاستقرار الملاحة البحريّة. غير أنّ تهديدات قادة الحرس الثوري المتكرّرة بإغلاق البحر المتوسط، إضافة إلى البحر الأحمر، تلقي الضوء على بديهيّة حذّرت منها مملكة المغرب عندما أخطرت ونبّهت من تسليح إيران والحزب لجبهة البوليساريو بالصواريخ الطويلة المدى التي تستطيع استهداف مضيق جبل طارق غربيّ المتوسّط.
قبل أقلّ من شهرين، رصد تقرير أميركي، أصدره مركز التفكير الأميركي غير الحكومي “Heritage”، وجود “دعم من إيران لجبهة البوليساريو ضدّ المغرب”، في سياق استراتيجيتها للحرب بالوكالة، والتكتيكات غير المتكافئة، من خلال التدريب والتسليح اللذين يقدّمهما أفراد الحرس الثوري لأفراد الجبهة. أضاف التقرير أنّ طهران “تبنّت سياسة تتمحور حول الحرب غير النظامية، حيث قام الحرس الثوري بتدريب وتسليح ودعم مجموعة متنوّعة من الجماعات”.
كشف التقرير وجود “تجسّس” لإيران بمنطقة شمال إفريقيا، من خلال قمر صناعي تجسّسي (نور) ظهر خلال احتفالات الحرس الثوري بذكراه الـ41.
قبل ذلك، كان وزير خارجية المغرب ناصر بوريطة اتّهم إيران بالسعي إلى “زعزعة استقرار دول شمال وغرب إفريقيا” من خلال المجموعات التابعة لها. وأضاف بوريطة، الذي قطعت بلاده علاقاتها الدبلوماسية مع طهران منذ 2018، أنّ “إيران هدّدت المغرب وأمنه عبر دعمها لجبهة البوليساريو ومدّها بالسلاح وتدريب مقاتليها لشنّ هجمات على الأراضي المغربية”.
شدّدت الرباط على أنّ إيران نشطة جداً في غرب إفريقيا وتعزّز انتشارها هناك من خلال عناصر الحزب وموالين له.
جعلت السياقات الاستراتيجية في الشرق الأوسط إيران لاعباً فعّالاً في القرن الإفريقي وفي محيط البحر الأحمر
هل تتكرّر تجربة البحر الأحمر في المتوسّط؟
تتنافس عدّة دول، بينها الصين واليابان والهند وأميركا وأوروبا وغيرها، على القارّة الإفريقية. ولكنّ هناك صعوداً للاعبين جدد بدأ يظهر تأثيرهم بشكل فاعل مقابل اللاعبين القدامى. وإن كانت إيران من ضمن هؤلاء الجدد، إلا أنّه يمكن الإشارة إلى أنّ أهمّ منافسيها في إفريقيا هم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وتركيا. لكنّ الفارق الأساسي يتعلّق بالحضور العربي القائم على حسن النوايا والتبادل التجاري وتشجيع الاستثمارات. في حين تتنافس إيران مع تركيا على الموارد والمواقع الاستراتيجية.
منذ عام 2008، بدأت إيران بإرسال سفن حربية إلى موانئ “مصرع وعصب” الإريتريّة وإلى بورتسودان لتقديم الدعم وتسليح جماعة الحوثي باليمن، ولتلبية حاجات هذا التنظيم العسكرية الداخلية والإقليمية، تحت أنظار دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة التي تسدّد اليوم الثمن غالياً من مليارات الخزينة الأميركية.
تواجه واشنطن راهناً ضربات الحوثي، إلا أنّها أمام تحدّي إثبات مدى فعّالية مواجهتها الحالية بعدما تغاضت طويلاً عن الدور الإرهابي لإيران وأداتها الحوثيّة وسكوتها عن عمليات التهريب البحري المتضمّنة شحنات من المدافع والصواريخ والرشاشات الآتية من إيران من دون اعتراضها. ولا ينفع في هذا الشأن القول إنّها صادرت بعض العتاد لأنّ الشحنات التي مُرّرت أكثر بكثير ممّا تمت مصادرته.
مع وصول الخميني إلى الحكم عام 1979 انشغلت إيران بحربها مع العراق ثمّ ركّزت اهتمامها على الدول المجاورة
أجّج استهداف الحوثي للسفن العابرة للبحر الأحمر عبر مضيق باب المندب الصراع وأدّى إلى عسكرة هذا البحر وحوّل دجيبوتي إلى أراضٍ تستأجرها القواعد العسكرية الأميركية والصينية والفرنسية والإيرانية، إلا أنّه في نهاية المطاف، ولو بعد حين، تلتقي مصالح أميركا وروسيا والصين وأوروبا التجارية في إبعاد هذا الممرّ عن سيطرة إيران وأذرعها. فالحضور الإيراني برز لملء الفراغ بعد القصور الدولي، ولا يمكن وصفه بالدائم والطويل الأمد، وقد يتراجع حتماً في حال التوافق الدولي على حماية الممرّات البحرية وعلى استقرار التبادلات التجارية وعلى تقويض هذا الحضور. وإن تمّ التغاضي عن النشاط الإيراني في غرب إفريقيا كما في شرقها، فالمتوسّط وجهة الحرس الثوري ومضيق جبل طارق قد يحاكي مصيرهما مصير باب المندب ومضيق هرمز.
إقرأ أيضاً: ربيعٌ ساخنٌ برائحة بارود
فهل يلدغ العالم مرّتين، أم يتعلّم من تخاذله بوجه طهران؟!
لمتابعة الكاتب على X: