لن يعتبر الردّ الإيراني ردّاً بعد اليوم إن لم يستهدف قادة في الجيش الإسرائيلي، ومن الصفّ الأوّل. ولن يكون “الانتقام” انتقاماً إن لم يوجّه ضربة قاصمة للكيان الصهيوني. ولّى زمن العنتريّات الكلامية والصواريخ العشوائية “المُشاغِلة” التي اعتُبرت إلى حدّ قريب كافية لوأد النار في نفوس الجمهور الممانع. فبعد كلّ ضربة التوعّد والتهديد نفساهما. لا العدوّ ارتدع ولا فشل أو أوقف استهداف قادة الصفّ الأوّل لنظام طهران وسواعده في المنطقة. حتى تاريخ كتابة هذه السطور، لم تردّ طهران بعد ردّاً “لائقاً” على اغتيال قاسم سليماني. حتى تتوعّد بالردّ على الضربة القاسية التي تعرّضت لها في المبنى الملاصق للقنصلية الإيرانية في دمشق والتي قتلت عدداً كبيراً نسبياً من قادة الحرس الثوري.
في كلّ استهداف، ننتظر الردّ والآمال تتضاءل. لا تخيّب طهران الظنّ وتفاجئ المنتظرين. فتعبير “الردّ في الزمان والمكان المناسبين” جاهزٌ للاستخدام في كلّ زمان ومكان، مهما قست الضربة التي تعرّض لها هذا المحور. وإلى جانب هذا التعبير الفضفاض تستحدث إيران تعابير جديدة، مثلاً: “جبهة الإسناد” و”جبهة الإشغال”، وأخيراً وليس آخراً، اعتماد تعبير “الصبر الاستراتيجي”.
تمرّ الأيام، ولا يزال البعض متمسّكاً بخيط أمل، على الرغم من رفعته، بأن يأتي الردّ الإيراني “أخيراً” ويهدّئ نفوس الممانعين. وبدلاً من الإعداد وتنفيذ عملية عسكرية موصوفة. تمطر وسائل الإعلام الإيرانية قارئيها بتصريحات ليس أوّلها تلك التي يتوعّد فيها المرشد الإيراني علي خامنئي إسرائيل قائلاً إنّها “ستندم على هذه الجريمة ومثيلاتها من الجرائم” وإنّ الهجوم “لن يمرّ دون ردّ”. وعلى الرغم من أنّه لم يتحدّث عن نوع “الانتقام” والردّ”. إلا أنّ موظّفيه تسلّموا الدفّة وبدأوا بالترويج لما قد يكون عليه الردّ الإيراني (طبعاً الرّدّ على مقياس حفظ ماء الوجه لا على مقياس الرّدّ المناسب). فعضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، إسماعيل كوثري، قال إنّ هناك عناصر كثيرة ضمن ما وصفه بجبهة المقاومة ستردّ. متابعاً أنّه “إذا لزم الأمر”، فستردّ طهران بنفسها. وهنا السؤال: ماذا يقتضي أكثر من ذلك لـ”يَلزَم الأمر” ردّاً إيرانياً مباشراً؟!
لن يعتبر الردّ الإيراني ردّاً بعد اليوم إن لم يستهدف قادة في الجيش الإسرائيلي، ومن الصفّ الأوّل
يتقاطع كلام كوثري مع تصريحات المتحدّث باسم الحرس الثوري، رمضان شريف. حين قال إنّ ضربات أكثر فتكاً ستوجَّه ضدّ إسرائيل وإنّ “جبهة المقاومة ستقوم بواجبها”، وفق تعابيره.
إيران.. “نِمرٌ من ورق”
في المقابل، نقلت رويترز عن مسؤولين أميركيين بأنّ إيران تواجه إشكالية “الرغبة في الرّدّ” لردع إسرائيل بينما تريد تجنّب حرب شاملة، وبأنّها متخوّفة من أنّ عدم الردّ الإيراني سيظهرها كـ”نمر من ورق”. فيما نقلت قناتا “الحدث” و”العربية” عن مصادر أمنيّة أميركية رسمية وجود توافق أميركي إيراني على عدم التصعيد في أعقاب استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق. وأضافت أنّ “واشنطن تعتبر أنّ التحذير السابق لإيران ما زال قائماً”، وكلتاهما (أي واشنطن وطهران) “تتشاركان الموقف تجاه عدم التصعيد وحصر الصراع بغزّة”، والأميركيون “مطمئنّون إلى أنّ الوضع مع إيران لن يتصاعد”.
قرار الحرب في تل أبيب
راهناً، وبموازاة العمليات العسكرية في البحر الأحمر. هناك حرب إسرائيلية تدور رحاها من رفح في أقصى جنوب قطاع غزة على حدود مصر مروراً بمدن الضفة الغربية الفلسطينية، وامتداداً على كامل الجغرافيا اللبنانية والسورية. لكنّها تختلف عن الحروب الكلاسيكية لاقتصارها على الغارات الجوّية، والقصف الصاروخي، وتدخّل المسيّرات. من دون عمليات برّية في كلّ من سوريا ولبنان.
تغتال الحرب الحالية (غير الكلاسيكية) القادة العسكريين، وتستهدف الكوادر بمختلف اختصاصاتهم، ومن بينهم الكادرات المتخصّصون بالسيبرانية والتكنولوجية المتطوّرة. وتطال مقرّات ومخازن ومنصّات ومطارات مسيّرات والهيكلية التنظيمية للحزب في لبنان وسوريا والرتب القيادية للحرس الثوري في البلدين معاً.
ستستعر الحرب هذه وتتوسّع من دون سقف يحدّها، ما دام الحزب يربط مصير لبنان بمصير حماس والجهاد في قطاع غزة، ولأنّ الحزب لا يريد أن يوقف إطلاق الصواريخ والمسيّرات متمسّكاً برفض تنفيذ القرارات الدولية واحترام اتفاقية الهدنة. وتُضاف إلى ذلك “مطواعية” الحزب بتنفيذ التعليمات الإيرانية باستمرار توتير الأوضاع في الجنوب بسبب أنّه يتعذّر على الحرس الثوري التصرّف في الجولان السوري المحتلّ. وعدم قدرته على جرّ النظام في سوريا لأيّ مواجهة مع العدوّ الإسرائيلي.
تمرّ الأيام ولا يزال البعض متمسّكاً بخيط أمل على الرغم من رفعته بأن يأتي الردّ الإيراني “أخيراً”
بالمقابل، ستتصاعد وتيرة الحرب تلك، إذ إنّ إسرائيل انتقلت من حالة “الدفاع السلبي” التي مارستها بعد 7 أكتوبر (تشرين الأول) في الجبهة الشمالية إلى حالة “الهجوم الإيجابي” كما تسمّيها. فقد جعلت من جغرافيا لبنان سماءً وأرضاً مرتعاً للقصف وللغارات وللاغتيالات. حتى باتت تحاكي الجغرافيا السورية المفتوحة لتل أبيب منذ سنوات.
من أسباب التصعيد أيضاً عيشُ تل أبيب في هاجس ضرورة إفشال مسار التفاوض الإيراني – الأميركي “المفتوح” بكلّ أريحية والمستمرّ منذ بدء ولاية بايدن في كلّ من فيينا وسويسرا ومسقط والدوحة. تتعمّد تل أبيب إفشال هذه المفاوضات “بالنار الحامية”. لتضع حدّاً لسياسة الإدارة الأميركية وضغط اللوبي الإيراني داخل الحزب الديمقراطي الأميركي خلال الأشهر الأخيرة قبل انتخابات الرئاسة في تشرين الثاني المقبل.
يعلم النظام في طهران تمام العلم مقولة الخميني الشهيرة بأنّ الثورة في إيران “هي ثورة كربلائية حسينية” مستمرّة بـ”المواجهة والجهاد”. غير أنّه اختار ما رفعه مرشده علي خامنئي من شعار “الصبر الاستراتيجي” لمواجهة ممارسات إسرائيل. وذلك “الصبر” ليس تقويضاً لـ”الجهاد الكربلائي” فحسب. بل دليل على عجز بنيوي تعرفه جيّداً طهران، التي تستشعر بأنّ مواجهتها الواسعة لإسرائيل ليست بمقدورها. بل تهدّد وجود النظام واستمراريّته، فيما بقاؤه هو “الأولويّة المطلقة لدى الملالي والحرس الثوري”.
يعلم النظام في طهران أيضاً أنّ إسرائيل تعمد إلى تفكيك كلّ القيادات العسكرية التي بناها قاسم سليماني، والتي تشكّل القوّة القيادية المتقدّمة في سياسة إيران في كلّ من سوريا ولبنان وفلسطين. وأنّ هذه الضربات التي لم تتورّع عن هدم مقرّ دبلوماسي محميّ باتفاقية فيينا لعام 1961. هي ضربات تقصم ظهر الحرس الثوري، وهي “إهانة” إسرائيلية إضافية لكلّ القدرات العسكرية لإيران وحلفائها. إلا أنّه يبدو مجدّداً أنّ طهران اختارت “عدم الردّ المناسب”. أوّلاً، لعدم قدرتها على الوصول إلى قادة إسرائيليين واغتيالهم، وتالياً لأنّ أيّ مغامرة ستهدّدها في عقر دارها. لذا ستختار صمت الأفعال مجدّداً وصخب التصريحات وبعض الصواريخ “العشوائية” غير الفعّالة في المعادلة العسكرية.
ستستعر الحرب هذه وتتوسّع من دون سقف يحدّها، ما دام الحزب يربط مصير لبنان بمصير قطاع غزة
عجز إيران ذاك سيجعل تل أبيب أكثر عدوانية وأكثر جنوحاً نحو تصعيد الحرب الحالية.
شعوب تدفع الثمن
تسبّبت حرب المشاغلة أو حرب المساندة التي بدأها الحزب بموازاة عملية “طوفان الأقصى” بتهجير أكثر من 90 ألف لبناني من الجنوب. وهدمت قرى بكاملها وأتلفت مواسم زراعية وتسبّبت بخسائر بشرية ومادّية لا تعوّض.
إزاء هذا الوضع المستمرّ، يتساءل اللبناني عامّة وابن الجنوب خاصّة عن مصيره وعائلته، وعن احتمال توسّع الحرب. وبحال توسّعها: هل تقتصر على ما نشاهده اليوم أم تتضمّن عمليات برّية مصحوبة باجتياحات واحتلال لأراض وشريط حدودي؟
بقلق مشابه ونتيجة للغارات الجوّية التي أدّت إلى اغتيال قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا. وتفجير مستودعاته من الجولان حتى دير الزور والحسكة، وصولاً إلى هدم مقرّات دبلوماسية على رؤوس من يخطّط لاستمرار الحرب في كلّ من سوريا ولبنان. يتساءل المواطن السوري عن مصيره. فهو بدوره لا يعلم من يسكن في الشقة المحاذية. ولا أيّ طابق من بنائه يسكن فيه قائد من الحرس الثوري أو عنصر من الحزب.
لا نخال الشارع الإيراني أقلّ قلقاً على مصيره بعد سحبه وجرّه المستمرّ إلى مواجهات لا تنتهي، عمرها من عمر نظام الملالي.
إقرأ أيضاًً: اغتيال قادة “الحرس” يطرح وجود إيران في سوريا؟
ينتظر الناس في كلّ من لبنان وسوريا أوقاتاً عصيبة وربيعاً ساخناً مليئاً برائحة البارود. وإن لم يتخلّل هذا الربيع اجتياحات برّية لا حاجة إليها بوجود ما يخلّفه دمار القصف الجوّي والضربات المركّزة والدقيقة.
لمتابعة الكاتب على X: