تردّ واشنطن على التحدّي الدولي لسياستها في غزة بسلوك مزدوج: ضمان تفوّق إسرائيل عسكرياً، والانخراط في إدارة الحرب بادّعاء وقفها. مواجهتها موجة اعتراف دول أوروبية بالدولة الفلسطينية تدفعها لابتداع مناورات وأفكار تبقي المبادرة في يدها. فهي مع حلّ الدولتين لكنّها تجهضه بإغراقه في لعبة التفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل.
الأخيرة أكثر بعداً عن هذا الخيار ممّا كانت حين قال إسحق شامير قبل مؤتمر مدريد إنّه سيطيل التفاوض عشرات السنين. فالدولة العبرية باتت في زمن التطرّف الديني التلموديّ الداعي إلى إبادة الشعب الفلسطيني خلافاً لزمن إسحاق رابين. الازدواجية الأميركية في زمن الانتخابات الرئاسية، تبدو نسخة ملطّفة عن الرفض الإسرائيلي لأيّ بحث في قيام دولة فلسطينية.
نيّة واشنطن تعيين “مستشار مدنيّ” في غزة وفق مجلّة “بوليتيكو”، كشفت بدورها أهداف إقامة الرصيف العائم على شاطئ القطاع. فتحت ستار نقل المساعدات الإنسانية للفلسطينيين، يشكّل الرصيف المؤقّت رأس جسر لدور أميركي سياسي مباشر في إدارة الأراضي الفلسطينية. وهناك بين المتابعين لتعاطي واشنطن مع الخلافات الإسرائيلية الداخلية من يعتبر أنّه موازٍ لإدارتها لمستقبل الحكم في إسرائيل بعد نتنياهو.
اليوم التالي: بول بريمر آخر لغزّة؟
نقلت “بوليتيكو” عن أربعة مسؤولين أميركيين قولهم إنّ إدارة بايدن “تدرس تعيين مسؤول أميركي ليكون كبير المستشارين المدنيين في غزة”. وظيفة المسؤول الأميركي أن يكون “مستشاراً لقوّة معظمها فلسطينية عندما ينتهي الصراع بين إسرائيل وحماس”.
البارز في ما سرّبته الإدارة للمجلّة يمكن ملاحظته في التالي:
– وفق المسؤولين الأميركيين لـ”بوليتيكو”، فإنّ مقرّ المستشار المدني سيكون في المنطقة ولن يدخل غزة. وهذا وفق تحليل مراقبين محاولة لتجنّب إعطاء المستشار صفة “القنصل السامي” أو “الحاكم المنتدب” الذي يرفضه الفلسطينيون والعرب سلفاً.
نقلت “بوليتيكو” عن أربعة مسؤولين أميركيين قولهم إنّ إدارة بايدن “تدرس تعيين مسؤول أميركي ليكون كبير المستشارين المدنيين في غزة”
– رأى مراقبون أنّ بقاء “المستشار” خارج غزة هو لتفادي أيّ انطباع بتكرار تجربة “الحاكم الإداري” بول بريمر في العراق. فهذه التجربة كانت أشبه بالفشل – الفضيحة، نظراً إلى ما تكشّف إثرها، بدءاً بخطيئة حلّ الجيش العراقي. بريمر أشرف أيضاً على صفقات واشنطن في بلاد الرافدين في النفط وإعادة الإعمار ومهّد لتسليم العراق لإيران. ولذلك أوضح المسؤولون الأميركيون أنّهم لا يزالون يناقشون حجم السلطة الرسمية التي سيتمتّع بها “المستشار”.
– حسب “بوليتيكو” سيعمل المستشار بشكل وثيق مع قائد القوة، الذي سيكون إمّا فلسطينياً أو من دولة عربية. وفي هذا الأمر محاولة “لتطمين” الدول العربية إلى أنّ خطّة الإدارة تشمل انسحاب إسرائيل من القطاع. كما أنّ الجانب الأميركي يوحي من خلال ذلك بأنّ أيّ قوات عربية لن تكون تحت رحمة الاحتلال الإسرائيلي.
قوّة عربيّة ووظيفة اقتصاديّة للرصيف العائم
– إنّ القوة العربية الفلسطينية ستحفظ الأمن وتضمن عدم تكرار الصدامات مع إسرائيل والعمليات الأمنيّة. جميع المسؤولين الذين تحدّثوا لـ”بوليتيكو” أكّدوا أنّ هناك خطّة للولايات المتحدة للعب دور “بارز” في انتشال غزة من الفوضى. وفكرة “المستشار المدني” واحد من سيناريوهات تمّت مناقشتها.
– تشمل الخطّة الأميركية المفترضة أيضاً سيناريوهات أخرى “تركّز على تنمية اقتصاد قطاع غزة، وإعادة إعمار المدن المدمّرة”. وهذا بذاته وفق من يرصدون الأهداف الاقتصادية الأميركية يلقي الضوء على ما تخطّط له واشنطن في شأن الغاز في القطاع. كما يشير إلى موقع غزة في مشروع الطريق التجاري من الهند إلى الشرق الأوسط والخليج العربي، بمواجهة طريق الحرير الصيني… وفي هذه الحال يصبح للرصيف العائم تحت غطاء توفير المساعدات الإنسانية (التي تمنع إسرائيل توزيعها) وظيفة بعيدة المدى.
نيّة واشنطن تعيين “مستشار مدنيّ” في غزة وفق مجلّة “بوليتيكو” كشفت بدورها أهداف إقامة الرصيف العائم على شاطئ القطاع
– إنّ الإدارة الأميركية بدأت استكشاف الأفكار حول إعادة إعمار غزة منذ الشهر الثاني للحرب. وكُلِّف فريق من البيت الأبيض جمع المعطيات مع منظّمات دولية وجهات توجد في القطاع ومع دول عربية لهذا الغرض. وفق معلومات “أساس” شرح هذا الفريق اهتمامه بالأمر بحجّة أنّ أميركا تنوي ترميم صورتها التي تضرّرت بدعم إسرائيل في المنطقة، والمساهمة في إعادة الإعمار تساعد في ذلك.
الالتفاف على العزلة؟
يؤكّد مسؤولون أميركيون أنّهم يعملون “من خلال التخطيط المكثّف، على جمع شركاء متعدّدين حول أفكار لتحقيق استقرار غزة بعد الحرب”. إلا أنّ بثّ تلك الأفكار يدعو إلى التساؤل عمّا إذا كان يهدف إلى تشتيت الأنظار عن جملة وقائع:
1- قرار محكمة العدل الدولية في 24 أيار مطالبة إسرائيل بوقف هجومها على رفح. تجنّبت واشنطن الإحراج في التعليق عليه. لكنّها انتقدت قبله طلب المدّعي العام في المحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكّرات توقيف في حقّ نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، وشملت قادة “حماس” إسماعيل هنية ويحيى السنوار ومحمد الضيف. وعلى الرغم من ذلك بدت إدارة بايدن معزولة دولياً مقابل تأييد دولي كبير للأوّل ومراوحة بين التأييد والتردّد حيال الثاني.
2- إنّ واشنطن على الرغم من معارضتها العلنية لدخول رفح في 7 أيار، انكشف موقفها بعد زيارة مستشار الأمن القومي جيك سوليفان إسرائيل حين تسرّبت معلومات إعلامية عن أنّه ناقش فيها “حدود اقتحام رفح” وأعرب عن رضاه عليها. وسبق ذلك حسب مصادر “أساس” الدبلوماسية، وخلافاً لمعارضة واشنطن العلنية لاقتحام المدينة، إبلاغ دول حليفة بأنّها لا تعارض “دخول محيطها”. جاء ذلك خلال جولة وزير الخارجية أنتوني بلينكن الأوروبية في مطلع شهر نيسان الماضي. لكنّ القوات الإسرائيلية عمّقت توغّلها في جنوب رفح، ثمّ قصفتها من الجوّ بوحشيّة، فور صدور قرار محكمة العدل. ثمّ عشية إعلانها عن انسحاب شكليّ يبقي على تحكّمها بالمعبر مع مصر. وأوقعت مجازر وعشرات القتلى.
تردّ واشنطن على التحدّي الدولي لسياستها في غزة بسلوك مزدوج: ضمان تفوّق إسرائيل عسكرياً، والانخراط في إدارة الحرب بادّعاء وقفها
3- إنّ موجة الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية التي بدأت بإعلان إسبانيا وإيرلندا والنروج أحرجت واشنطن، مع تكرارها ربط الاعتراف بالتفاوض. ثمّ جاء موقف الغالبية الأوروبية في الاجتماع المشترك على المستوى الوزاري قبل يومين في بروكسل، الذي تحوّل إلى منتدى سيرفع عدد الدول التي ستنضمّ إلى هذا الاعتراف، وأظهر أميركا معزولة عالمياً في شأن القضية الفلسطينية ودعمها لإسرائيل. فالدول العربية تدرك ضمناً أنّ الاعتراف بدولة فلسطين سيأخذ وقتاً ريثما تنتهي الانتخابات الرئاسية الأميركية، ويحصل تغيير جذري في الطاقم الحاكم في إسرائيل. هذا فضلاً عن الحاجة إلى تهيئة السلطة الفلسطينية للعب دور في إدارة القطاع عبر صيغة لاندماج “حماس” في منظمة التحرير الفلسطينية. لكن على الرغم من ذلك تسعى الدول العربية إلى خطوات تراكمية لتوسيع القاعدة الدولية للاعتراف بالدولة، حتى لو عارضته واشنطن.
إقرأ أيضاً: عودة النازحين: الأسد يتطلع إلى أميركا لا إلى لبنان
هذه الأحداث وغيرها دفعت واشنطن على الأرجح نحو تسريب ما يوحي بأنّ لديها خططاً لليوم التالي. فهل الهدف إلهاء المسرح الإقليمي والدولي عن الوقائع المذكورة في ظلّ تعذّر زيادة ضغوطها على إسرائيل لوقف الحرب؟
يفترض أن تتّضح الأجوبة في هذا الصدد في ضوء المحاولة الجديدة لاستئناف التفاوض على صفقة لوقف النار وتبادل الرهائن والأسرى التي تتجدّد اليوم في القاهرة.
لمتابعة الكاتب على X: