“اليوم لا أحد يدير غزة، وفقاً لدانا سترول مديرة الأبحاث في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، ونائبة مساعد وزير الدفاع الأميركي السابق لشؤون الشرق الأوسط. فقد تحوّلت المدينة إلى مساحة غير خاضعة للحكم، حيث تتجذّر هياكل السلطة الموازية والمتنافسة، وهو ما يكشف، في رأيها، أنّ ظروف عدم الاستقرار على المدى الطويل قائمة بالفعل.
تكشف سترول في مجلّة “فورين أفيرز” أنّ بعض مسؤولي الأمم المتحدة يطلقون الآن على غزة اسم “مقديشو على البحر الأبيض المتوسط”. باعتبار أنّه “في بعض المناطق، تقدّم فلول الوزارات التي تديرها حماس خدمات أو تحوّل مساعدات إنسانية، بينما تقوم شبكات إجرامية في مناطق أخرى بنهبها قبل توزيعها. وفي أماكن أخرى، تتعاقد المجتمعات المحلّية والجماعات الإنسانية مع جماعات مسلّحة غير حماس لتوفير الأمن”.
تعتبر سترول أنّ “ندرة الحلول الواقعية لليوم التالي في غزة تعكس غياب التخطيط، وهو الأمر الأكثر إثارة للقلق”. وفي رأيها أنّ المراقبين يتحدّثون عن “اليوم الخطأ، فالأمر الأكثر أهمّية هو “اليوم الفاصل”، عندما تكون هناك حاجة إلى تدفّق الدعم والخدمات المدنية بما يتجاوز المساعدات الإنسانية الطارئة، حتى مع استمرار العمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي. هذا الدعم، الذي سيتطلّب عزيمة سياسية إسرائيلية للتخطيط وتحديد أولويات الفلسطينيين، إلى جانب الخبرة والتمويل الدوليَّين، سيكون ضرورياً لضمان عدم إضاعة “اليوم الفاصل”.
تكشف سترول في مجلّة “فورين أفيرز” أنّ بعض مسؤولي الأمم المتحدة يطلقون الآن على غزة اسم “مقديشو على البحر الأبيض المتوسط”
“اليوم الفاصل” و”السّاعة الذهبيّة”
عندما يتحدّث المسؤولون والمعلّقون عن “اليوم التالي”، فإنّهم يشيرون إلى الفترة التي تلت إنهاء إسرائيل لعملياتها العسكرية النشطة لتفكيك البنية التحتية العسكرية لحماس. في سيناريو “اليوم التالي” هذا، من المتوقّع أن يكون جيش الدفاع الإسرائيلي قد نجح فعليّاً في القضاء على حماس ككيان منظّم، وأن يكون هناك اتفاق عربي – إسرائيلي – أميركي – دولي لإنشاء قوّة أمنيّة على الأرض، وإطار لحكم جهة غير حماس، وخطة لزيادة إيصال المساعدات الإنسانية، والتمويل لتحقيق الاستقرار وإعادة الإعمار. وكلّ ذلك يتطلّب تخطيطاً وجدولة تفصيليَّين وتنسيقاً مدنياً عسكرياً ودعماً دولياً كان ينبغي أن يبدأ بالتزامن مع حملة جيش الدفاع الإسرائيلي في غزة في تشرين الأول 2023.
لكنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي تجنّب عمداً هذا التخطيط، معتبراً أنّه تنازل يخفّف الضغط على حماس. ومع ذلك، لا ينبغي أن يمنع هذا إسرائيل من التخطيط “لليوم الفاصل”، أو ما تسمّيه منظّمات مثل راند RAND “الساعة الذهبية”. وهي فترة الأسابيع والأشهر التي تلي مباشرة نهاية العمليات العسكرية وتسبق إعادة الإعمار وتعتبر حاسمة لأنّها تضع التعافي بعد انتهاء الصراع على مسار إيجابي أو سلبي.
فترة هذه “الساعة الذهبية” مفقودة في التخطيط لغزّة، بحسب سترول. فالمدنيون في غزة سيريدون فهم الخطّة ومن المسؤول عن تنفيذها ومعرفة ما إذا كان بإمكانهم العودة إلى ديارهم وما عليهم فعله للعودة.. سيريدون معرفة ما إذا كانوا سيكونون آمنين وأيّ سلطة ستنظّم الخدمات الأساسية وتلبّي احتياجاتهم لإعادة بناء حياتهم. إذا لم يكن لديهم يقين من وجود خطّة، فستستقرّ الجماعات المسلّحة والقوى الأجنبية وتنشئ هياكل موازية من شأنها تهيئة الظروف لمزيد من عدم الاستقرار. وهذه هي الفرصة التي تنتظر استغلالها حماس وإيران وغيرهما.
وتضيف الكاتبة أنّ إسرائيل تخاطر بالفعل بعدم التخطيط للساعة الذهبية. إذ من دون وجود أمنيّ ذي مصداقية وخطة لتوفير احتياجات السكان المدنيين في شمال غزة، فإنّ حماس وآخرين سيعودون باستمرار لسدّ الفجوات في الحكم والفجوات الأمنيّة.
في سيناريو “اليوم التالي” هذا، من المتوقّع أن يكون جيش الدفاع الإسرائيلي قد نجح فعليّاً في القضاء على حماس ككيان منظّم
أرسلوا قوّات سلام
بحسب سترول، تعلّمت الولايات المتحدة بشكل مؤلم أنّه بدون اتّباع نهج يركّز على المدنيين لتحقيق الاستقرار في منطقة ما بعد الحرب، فإنّ أيّ إنجاز عسكري سيكون عابراً. لذا فإنّ الحملة الإسرائيلية في غزة معرّضة ليس فقط لخطر إهدار الفرص خلال الساعة الذهبية، بل أيضاً لتفويت فرصة تهيئة ظروف التعافي في مرحلة ما بعد الحرب في غزة التي ستكون ضرورية لأمن إسرائيل. وهذه أخطاء ارتكبتها الولايات المتحدة والأمم المتحدة وغيرهما في أماكن أخرى.
تعتبر سترول أنّ تجاهل ثقل التجربة التاريخية عندما يتعلّق الأمر بالتخطيط وصنع القرار في مرحلة ما بعد حماس في غزة هو قرار سياسي..”ولعكس هذا المسار في غزة، يجب في رأيها:
-أوّلاً: رفع مستوى الأنشطة التي تركّز على المدنيين إلى أولوية العمليات العسكرية نفسها. وتحتاج إسرائيل على وجه الاستعجال إلى صياغة اقتراح يتعلّق بوجود قوات إنفاذ القانون يلبّي الحدّ الأدنى من الشروط اللازمة لتقديم الخدمات للمدنيين الفلسطينيين بدلاً من حماس. وهو اقتراح يحظى بأفضل فرصة للنجاح إذا تمّ الاعتراف به دولياً ودعمته الولايات المتحدة والعواصم العربية، بما في ذلك أبو ظبي وعمّان والقاهرة والرياض.
– ثانياً، يحتاج أصحاب المصلحة الخارجيون الذين تعهّدوا بمنع عودة حماس، بما في ذلك إسرائيل والسلطة الفلسطينية والولايات المتحدة، إلى شريك على الأرض يحتفظ بالشرعية في نظر المدنيين لتوزيع المساعدات والبدء في الأنشطة الأساسية الأخرى، بما في ذلك إزالة الأنقاض والتخلّص من المتفجّرات والذخائر. ويمكن ذلك بموجب التفويض الدولي نفسه، بدعم إسرائيلي وأميركي وإقليمي ودولي.
– وأخيراً، يتعيّن على الائتلاف الحاكم في إسرائيل أن يحدّد القادة المدنيين داخل الحكومة الإسرائيلية لإعفاء جيش الدفاع الإسرائيلي من دوره الأساسي في اتّخاذ القرار في غزة ما بعد الحرب. وبعد ذلك يجب أن يبدأ التخطيط المدني العسكري الحقيقي”.
عندما يتحدّث المسؤولون والمعلّقون عن “اليوم التالي” فإنّهم يشيرون إلى الفترة التي تلت إنهاء إسرائيل لعملياتها العسكرية النشطة لتفكيك البنية التحتية العسكرية لحماس
في رأي سول أنّ “الحملة التي تشنّها إسرائيل ضدّ حماس ليست لها سوى أهداف عسكرية، وهي تخاطر بالتركيز على القضاء على التهديدات بدلاً من صياغة رؤية استباقية لما سيحلّ محلّ حماس”. وتعتبر أنّ “إعلان نتنياهو أنّ إسرائيل لا تريد احتلال غزة على المدى الطويل، واتفاق إسرائيل مع العواصم العربية والولايات المتحدة وغيرها على ضرورة منع حماس من العودة إلى السلطة وتصدير الإرهاب، يشيران إلى وجود مجال سياسي للتوافق بشأن حكم ما بعد حماس في غزة الذي يبدأ بإنشاء بعثة مؤقّتة متعدّدة الجنسيات أو بقيادة الأمم المتحدة تسلّم في نهاية المطاف مسؤولية الحكم إلى كيان بقيادة فلسطينية”.
من يحكم غزّة؟
لحكم غزة، هناك، في رأي سول، مهمّتان عاجلتان:
– الأولى، تشكيل وجود لإنفاذ القانون في غزة، على الفور وعلى المدى الطويل. إذا لم يكن من الممكن الحفاظ على النظام، فلن يكون من الممكن القيام بأيّ أنشطة ذات معنى لتحقيق الاستقرار والتعافي. وقد تكون العواصم العربية التي لها علاقات مع إسرائيل مستعدّة للمساهمة بالأفراد والمعدّات وتمويل الوجود الأمني في مرحلة ما بعد حماس. لكنّها ستحتاج أوّلاً إلى تطمينات من إسرائيل بأنّ المدنيين الفلسطينيين يمثّلون الأولوية، وأنّ جيش الدفاع الإسرائيلي لن يعرّض سلامة وجود قوات إنفاذ القانون للخطر، وأنّ هناك خريطة طريق لاستعادة غزة بعد الحرب وإطاراً دولياً لحقّ تقرير المصير للفلسطينيين. ولأنّ الحلول المحلّية هي الأكثر ديمومة، يجب على القوات الفلسطينية أن تحمي المدنيين الفلسطينيين، وعلى قوات الأمن المرتبطة بالسلطة أن تبدأ التدريب الآن، بمساعدة المنسّق الأمني الأميركي في إسرائيل والأردن.
إعادة إعمار غزة ستتطلّب شركاء مدنيين ولا بدّ لخليّة التخطيط المدني العسكري التي تضمّ ممثّلين دبلوماسيين وتنمويّين وأمنيّين
– أمّا المهمّة العاجلة الثانية فهي التوصّل إلى توافق في الآراء بشأن إطار للحكم. وبهدف تنسيق أنشطة ما بعد الحرب. وللقول للمجتمعات المحلية إنّ هناك بديلاً موثوقاً لحماس، يجب أن يكون هناك كيان يتمتّع بالصلاحيّات والموارد الدولية والقدرة على اتّخاذ إجراءات فورية وإعطاء الأولوية للمشاركة المدنية. ويبدو أنّ مهمة الحكم المتعدّد الجنسيات، الذي ينتقل إلى كيان بقيادة فلسطينية، هو الخيار الأفضل في هذه المرحلة من الحرب. لكنّه سيحتاج إلى الشراكة مع الجهات الفاعلة المحلّية، السلطة الفلسطينية، بما يتماشى مع هدف بناء إطار حكم غير تابع لحماس في غزة.
في الماضي، نسّقت إسرائيل بنجاح مع كبار رجال الأعمال الفلسطينيين في غزة والموظّفين غير التابعين لحماس، وهو ما يعني أنّ الكادر المحلّي الضروري موجود اليوم، وهو في وضع أفضل ويمكن أن يحظى بثقة السكّان المدنيين في غزة. ويمكن لإسرائيل أن تعجّل بهذه العملية بإعداد قوائم معتمدة بالمسؤولين ورجال الأعمال الذين ستنسّق وتدعم معهم آليّات التعاون بينهم وبين البعثة الحكومية المتعدّدة الجنسيات.
لعدم إهدار “الساعة الذهبية”
تعتقد سترول أنّ “عدم إهدار الساعة الذهبية” يتطلّب أيضاً تنظيم الأدوار والمسؤوليات الإسرائيلية تجاه غزة. وتعتبر أنّ “الإبقاء على منسّق أعمال الحكومة في المناطق كقيادة إسرائيلية لأنشطة ما بعد الحرب في غزة يخاطر بالفشل في تعلّم الدرس القائل بأنّ الجهات العسكرية النظامية ليست أفض من يقود المهامّ المدنية.
تعتقد سترول أنّ “عدم إهدار الساعة الذهبية” يتطلّب أيضاً تنظيم الأدوار والمسؤوليات الإسرائيلية تجاه غزة
كما أنّ إعادة إعمار غزة ستتطلّب شركاء مدنيين. ولا بدّ لخليّة التخطيط المدني العسكري التي تضمّ ممثّلين دبلوماسيين وتنمويّين وأمنيّين من العواصم العربية وإسرائيل والسلطة الفلسطينية والأمم المتحدة والولايات المتحدة أن تعمل على الفور لبناء العلاقات والروابط التنظيمية لتكون آليّات التنسيق جاهزة للساعة الذهبية”.
إقرأ أيضاً: إيكونوميست: قادة إيران الجدد على حافة الهاوية النووية
أمّا في ما يتعلّق بالاستجابة للاحتياجات العاجلة في غزة وتمكين إعادة الإعمار على المدى الطويل التي ستتطلّب التمويل وموارد بعشرات المليارات من الدولارات، فتؤكّد سترول أنّ هذا الأمر لن يكون ممكناً إلا من خلال آلية دولية مجمعة. والتوافق على خطة تمويل لإقامة الطريق البحري من قبرص إلى غزة لتوصيل المساعدات الإنسانية دليل على أنّه عندما تتوافق الإرادة السياسية مع الاعتراف بالاحتياجات الملحّة لغزة، يمكن للدول أن تتعاون في مجال التمويل. وستشكّل هذه المواءمة أهميّة بالغة لضمان عدم إهدار الساعة الذهبية الحاسمة.
لقراءة التص الأصلي: إضغط هنا