تصالح الجماعة الإسلامية والحزب برعاية حماس في عام 2021 لم يكن إشارة إلى مسار جديد للحراك الإسلامي في المنطقة ولبنان نحو المقاومة، بقدر ما كان عودة للجماعة الإسلامية إلى عقيدتها الجهادية الأصلية بعدما تخلّت عنها لعقدين نتيجة عدّة عوامل: أوّلاً، الجهود الدولية لإدراج معظم الجماعات الإسلامية في منطقة الشرق الأوسط في العمليات الديمقراطية، وثانياً، الخلافات داخل الجماعة بين أنصار الفكر الجهادي وبين أنصار الفكر المنفتح.
يشير التحالف الإسلامي بين الجماعة الإسلامية، حركة حماس، والحزب بشكل رئيسي إلى نهاية مرحلة “ما بعد الإسلاموية”. فما هي هذه المرحلة؟
منذ أواخر التسعينيات، شهدت منطقة الشرق الأوسط ظهور مرحلة جديدة من النظام الديمقراطي، أطلق عليها البعض اسم “ما بعد الإسلاموية”، وتتميّز بـ “دولة ديمقراطية علمانية ومجتمع ديني”.
تبنّت عدّة حركات وأحزاب سياسية هذا المفهوم جزئياً في العالم الإسلامي، بما في ذلك حزب العدالة والتنمية التركي، الحزب، حماس، والجماعة الإسلامية، وغيرها. لكن في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، انقسمت الأنظمة العربية بين من رأى أنّ الجماعات الإسلامية غير ملتزمة بالمعايير الديمقراطية وتسعى إلى استغلال العمليات الانتخابية لتحقيق أهداف غير ديمقراطية، وبين من اعتقد أنّ إدراج الإسلاميين في العملية الديمقراطية ضروري لأنّهم يمثّلون شريحة كبيرة من مجتمعاتهم، وأنّ استبعادهم يعزّز التطرّف بدلاً من تشجيع الاعتدال. تتضمّن هذه الفكرة الاعتقاد بأنّ من يتمّ إدراجهم في النظام الديمقراطي سيصبحون أكثر اعتدالاً عندما يتعلّمون كيفية الانخراط في العمليات الديمقراطية.
فشلت محاولة التحوّل الديمقراطي في لبنان بسبب اعتماد النخبة الحاكمة إصلاحات سطحية فقط ضمن نظام طائفي يعيق أيّ تغيير أو تجديد
“رؤية وطن” في 2017
نجحت الجماعة الإسلامية في لبنان في الانخراط في العملية الديمقراطية بعد اتفاق الطائف. وأظهرت الممارسات المتطوّرة للجماعة المنتمية إلى فكر الإخوان المسلمين أنّ أيديولوجيّتها قد تطوّرت بالفعل من رؤية مغلقة نسبياً إلى رؤية أكثر تعدّدية وتسامحاً. بالتأكيد، لم تلتزم تماماً بالمعايير والممارسات الديمقراطية الليبرالية، لكنّها أصبحت أكثر اعتدالاً من الناحية الأيديولوجية، وهو ما يعني أنّها أصبحت منفتحة ومتسامحة نسبياً مع وجهات النظر الأخرى أكثر ممّا كانت عليه قبل الانفتاح السياسي في أوائل التسعينيات. المشروع السياسي للجماعة الإسلامية في لبنان عام 2017، الذي حمل عنوان “رؤية وطن”، يجسّد هذا التحوّل الجذري نحو أيديولوجية أكثر انفتاحاً وتسامحاً وتعدّدية تدعم إنشاء دولة مدنية وترفض القتال خارج حدود الدولة.
تتطلّب إقامة الديمقراطية في الشرق الأوسط الاعتراف بأنّ الإسلاميين فاعلون سياسيون شرعيون ولهم دوائر انتخابية كبيرة. ولكن بعد دخول بعض الحركات الإسلامية في النظام السياسي اللبناني بعد اتفاق الطائف، شهدت البلاد محاولة محدودة للتحوّل إلى الديمقراطية من قبل النخب الحاكمة التي كانت تسعى إلى البقاء في السلطة. أصبح هناك تصوّر بأنّ إدخال الجماعات الإسلامية في النظام السياسي لم يؤدّ إلا إلى جعلها تعمل في العلن، بحيث يمكن مراقبة أنشطتها كأحزاب قانونية بسهولة أكبر. وبالتالي لم يكن من الممكن أن يستمرّ هذا المسار المتعثّر الجديد للديمقراطية طويلاً بالنسبة للعديد من الجماعات الإسلامية، بما في ذلك الجماعة الإسلامية في لبنان.
فشلت محاولة التحوّل الديمقراطي في لبنان بسبب اعتماد النخبة الحاكمة إصلاحات سطحية فقط ضمن نظام طائفي يعيق أيّ تغيير أو تجديد. بالإضافة إلى ذلك، تتأثّر عملية التحوّل إلى الديمقراطية بعوامل مختلفة، مثل خصائص الأحزاب الإسلامية، التعبئة الشعبية، والعوامل الإقليمية والدولية. كانت تداعيات الربيع العربي من بين العوامل التي أتاحت للفكر الإسلامي أن ينمو من جديد في أواخر العقد الثاني من الألفية في كامل المنطقة.
انتهت مرحلة “ما بعد الإسلاموية”، وعادت الجماعة الإسلامية إلى أيديولوجيّتها ببيان سياسي يُظهر حرصها على محاولة حشد كلّ الطاقات الإسلامية في جبهة واحدة
بالنسبة إلى الجماعة الإسلامية، تأثّرت هذه العوامل بشكل رئيسي بنمو التشدّد الإسلامي السنّي في لبنان، وخاصة في الشمال، على خلفية الصراع السوري. كما أنّ الانقلاب العسكري في مصر ضدّ حزب الحرّية والعدالة، المنبثق من جماعة الإخوان المسلمين، أعطى انطباعاً عن مصير الحركات الإسلامية في حال دخولها النظام الديمقراطي. إلى جانب تفاقم الخلافات داخل الجماعة الإسلامية بين المتشدّدين والمعتدلين… أدّت هذه العوامل كلّها إلى تراجع كبير في مسار الجماعة نحو الديمقراطية، إلى أن جاءت حرب إسرائيل على غزة لتقضي على آخر ما بقي من تردّدها بشأن العودة إلى الإسلاموية.
أبرز الأسباب والمحطّات لعودة الجماعة إلى الجهاديّة
عند النظر إلى المشروع الفكري للجماعة، كان واضحاً أنّه يتناقض مع بعض الممارسات السياسية منذ توقيع اتفاق الطائف ودخول الجماعة الساحة السياسية اللبنانية. لكن في البداية، ومنذ تأسيسها، بقيت الجماعة ملتزمة بمبدأيها الرئيسيَّين: تطبيق الشريعة الإسلامية والجهاد من أجل تحرير فلسطين. ويمكن القول إنّ مشروعها الفكري بدأ بأيديولوجية إسلامية معتدلة وقريبة من فكر مؤسّس الإخوان المسلمين حسن البنّا، ثمّ تطوّر نحو التشدّد مع ميل مؤسّس الجماعة الإسلامية حينها، فتحي يكن، إلى فكر سيّد قطب الجهادي. وحدث أوّل تغيير جوهري في الجماعة بعد توقيع اتفاق الطائف عام 1989، وهو ما أدّى إلى قطع الطريق أمام مشروع قيام الدولة الإسلامية.
الفترة التي تلت الانسحاب السوري من لبنان منحت الجماعة الإسلامية حرّية أكبر للمشاركة في الحياة العامّة للمرّة الأولى منذ عقود. استفادت الجماعة من هذا الانفتاح لإعادة التفاوض بشأن علاقاتها مع القوى السياسية الأخرى.
في انتخابات 2005، قاطعت الجماعة الإسلامية الانتخابات التي حاول فيها تحالف 14 آذار مغازلة السنّة. وهو ما أدّى إلى فقدانها مصداقيّتها في الشارع السنّيّ… حتى وافقت على الاقتراب من الائتلاف الذي يتزعّمه سعد الحريري. هذا القرار أحدث خلافات بين قيادات الجماعة تمحورت بشكل أساسي حول التمسّك بمسألة المقاومة والجهاد وتبنّي الفكر الديمقراطي الجديد.
في انتخابات 2005، قاطعت الجماعة الإسلامية الانتخابات التي حاول فيها تحالف 14 آذار مغازلة السنّة. وهو ما أدّى إلى فقدانها مصداقيّتها في الشارع السنّيّ
توسّع الخلاف حول “الانفتاح” أو “السلاح”
بمعنى آخر، كان هناك خلاف بين فكر فتحي يكن الجهادي وفكر الأمين العام للجماعة حينها، فيصل المولوي، القريب من انفتاح واعتدال فكر حسن البنّا. هذا الخلاف شكّل انعكاساً مصغّراً عن الانقسام الأوسع في الخطاب السياسي في المنطقة بين من يؤيّدون الحوار للتوصّل إلى اتفاق سلام في المنطقة، ومن يؤيّدون المقاومة المسلّحة ضدّ إسرائيل، الذي نتجت عنه كتلتان سياسيّتان رئيسيّتان: تحالف سنّي، وتحالف غير شيعي حصراً. الأخير كان قد بدأ بالنموّ في المنطقة منذ نجاح الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، وتعثّر المحاولات الغربية لإجهاضه. ويضمّ، من بين آخرين، حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين، بالإضافة إلى الحزب المرتبط بإيران.
ظهر هذا الشقاق بوضوح في لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وبخاصة بعد حرب تموز عام 2006، عندما قام الحزب بتشكيل جبهة معارضة موحّدة ضدّ رئيس الوزراء السنّي، وقاد مقاطعة شيعية للحكومة. وهو ما أدّى إلى نفور العديد من الإسلاميين السياسيين السُّنّة. سرعان ما انقسمت الجماعة الإسلامية، فاصطفّ المولوي ومعظم قياداتها العليا خلف الحكومة، بينما انضمّ يكن وأقلّية كبيرة من قواعدها إلى المعارضة تحت مظلّة جبهة العمل الإسلامي.
في إطار التحوّل الجذري إلى الديمقراطية، أصدرت الجماعة الإسلامية مشروعها السياسي الجديد “رؤية وطن” عام 2017. انحرف هذا الإطار السياسي عن كلّ الأطر السياسية السابقة، إذ هدف إلى الالتزام بالدستور اللبناني، داعماً إنشاء الدولة المدنية الحديثة، ورافضاً إقحام لبنان في الصراعات الإقليمية، ورافضاً السلاح غير الشرعي (سلاح الحزب).
الحزب وحماس يتدخّلان
عندما انتهى الخلاف بين حماس والحزب، نتيجة تحالف الأخير مع النظام السوري خلال الحرب السورية ووقوف حماس ضدّ النظام السوري نظراً لتاريخه التصادمي مع الجماعات الإسلامية السنّية في سوريا، وخاصة جماعة الإخوان المسلمين، تولّت حماس التوسّط في الصلح بين الحزب والجماعة الإسلامية في عام 2021. أثمر هذا التصالح الثلاثي عن انتخاب محمد طقوش أميناً عامّاً للجماعة في عام 2022، وهو معروف بقربه من فكر الحزب وحركة حماس المقاوم والجهادي.
في إطار التحوّل الجذري إلى الديمقراطية، أصدرت الجماعة الإسلامية مشروعها السياسي الجديد “رؤية وطن” عام 2017
اعتقد البعض أنّ الحزب نجح في إحداث انقلاب داخل الجماعة ضدّ من يؤيّدون الفكر العلماني الديمقراطي، لكن في الواقع جاء الانقلاب من الداخل بفوز أنصار فكر فتحي يكن الجهادي القائم على فكرة “علانية العمل وسرّية التنظيم والإيمان بسياسة النفَس الطويل”. هذا ما ظهر بعد فترة وجيزة من فوز طقوش، حين تحجّجت الجماعة بتعرّض موقعها الإلكتروني لعملية قرصنة، فعمدت إلى إنشاء موقع جديد استبدلت فيه “رؤية وطن” لعام 2017 بإطار سياسي جديد أقرب إلى الرؤية القديمة للجماعة قبل النزاع الداخلي عام 1996 مع فتحي يكن، الذي كان ناتجاً عن التحالف السياسي للأمين العام آنذاك، فيصل المولوي، مع رفيق الحريري.
لم يكن من الممكن تحديد التاريخ الدقيق لإنشاء الموقع الجديد بسبب حرص الجماعة على إخفاء تفاصيله. على الرغم من ذلك، أصرّ عضو الجماعة، النائب عماد الحوت، في مقابلة مع موقع “أساس” في شهر آذار من العام الحالي، على أنّ الجماعة تتبع حالياً “رؤية وطن” السياسية، على الرغم من التناقض الواضح بين البيانين.
أحداث أيّار 2008
تحوّل الجماعة الإسلامية نحو علاقات أوثق مع الحزب عام 2023 أثار خلافات داخل الجماعة، وأصبحت هذه الخلافات علنية عندما أعلن النائب عماد الحوت أنّ الجماعة تبتعد عن قاعدتها الشعبية السنّية. يعود التدهور في العلاقات بين السنّة والشيعة في لبنان إلى أحداث مختلفة، وليس فقط إلى عام 2005، حين دعم الحزب النظام السوري المتّهم باغتيال رفيق الحريري، بل أيضاً إلى أحداث عام 2008، عندما اقتحم الحزب الأحياء السنّية في بيروت في محاولة لوقف قرار حكومي يحدّ من نظام الاتصالات الاستراتيجي للحزب. ومع ذلك، غطّت حرب إسرائيل على غزة في عام 2023 على تلك الخلافات، وأحدثت تقارباً بين أعضاء الجماعة، وأصبح التركيز على ضرورة المقاومة ضدّ إسرائيل.
إقرأ أيضاً: الجماعة الإسلاميّة والسلطة.. بين الاعتدال الإخوانيّ وراديكاليّة الملالي
بالتالي انتهت مرحلة “ما بعد الإسلاموية”، وعادت الجماعة الإسلامية إلى أيديولوجيّتها ببيان سياسي يُظهر حرصها على محاولة حشد كلّ الطاقات الإسلامية في جبهة واحدة للتصدّي للمشروع الأميركي الإسرائيلي في لبنان والمنطقة، معتبرة مواجهة المشروع الإسرائيلي أولوية قصوى، من خلال التنسيق الكامل مع حركة حماس ودعم جميع القوى المجاهدة.