الجماعة الإسلاميّة والسلطة.. بين الاعتدال الإخوانيّ وراديكاليّة الملالي

مدة القراءة 9 د

منذ انهيار السلطنة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى، وتفكّك نظام الخلافة إلى دول وكيانات وطنية، بدأت تيّارات الإسلام السياسي بالظهور تباعاً، وكان أوّلها جماعة الإخوان المسلمين. ومذّاك كانت فكرة الدولة مادّة نقاش ومدار جدل رئيسي في الأوساط الإسلامية المحافظة، حيث تطوّر طرح تيارات الإسلام السياسي، وخصوصاً الإخوان المسلمين، من عدم مشروعية الدول الوطنية، إلى الاعتراف بها. إنّما مع معارضة الأنظمة الحاكمة، أيّاً كان شكلها أو نوعها، وتقديم نفسها بديلاً عنها.

 

بعد اندلاع ما عُرف بـ”الربيع العربي” عام 2011. تمكّن الإخوان من الوصول إلى الحكم في عدّة دول، ثمّ خرجوا أو أُخرجوا منها تباعاً، فانطلقت حملة مراجعات إخوانية أفضت إلى بروز الطروحات الراديكالية ذات الرداء الثوري، على حساب الوجه الاعتدالي الذي حاول الإخوان تقديمه إبّان تسلطنهم.

التيّار القطبيّ والملاليّ

كلمة السرّ في تصدّر الطروحات المتشدّدة ليست جاذبيّتها وشعبويّتها فقط. ولا شعور المظلومية الذي أدمن الإخوان على تسويقه حتى صار قناعة راسخة لديهم، إنّما نظام ملالي إيران. فبعد حقبة السلطة، أعاد الإخوان تجديد التحالف مع الأخير، خصوصاً في الدول التي تملك طهران نفوذاً فيها، انطلاقاً من كونه يمثّل أنجح نماذج الإسلام السياسي وأكثرها استدامة وحضوراً، ويُعدّ الحليف الطبيعي والوجه “الشيعي” للإخوان المسلمين.

العلاقة بين الطرفين قديمة، وقد بدأت وتوطّدت عراها قبل الثورة الإسلامية في إيران، التي كان الإخوان أوّل من باركها وناصرها. ومثّلت نقطة تحوّل هائلة في تاريخ المنطقة والحركات الإسلامية. لكنّها دشّنت مع التيارات الجهادية التي ظهرت بعدها مباشرة وبفعل تأثيرها، التأويلات المتطرّفة، وخصوصاً مفهوم التكفير، الذي يضيق ويتوسّع حسب هوى كلّ جماعة.

لم تكن الجماعة الإسلامية بمنأى عن تأثير المراجعات والصراع الكلاسيكي بين الجناحين المعتدل والراديكالي

حتى داخل الإخوان المسلمين مَن لا يزال يكفّر الأنظمة السياسية القائمة في المنطقة، ويفتي بمشروعية الخروج عليها، بالاستناد إلى أفكار المنظّر الإخواني الشهير سيّد قطب. في كتابه “ظلال القرآن” اعتبر قطب أنّ “هناك داراً واحدة هي دار الإسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده. ويتولّى المسلمون فيها بعضهم بعضاً، وما عداها فهي دار حرب، علاقة المسلم بها إمّا القتال، وإمّا المهادنة على عهد الأمان، ولكنّها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين”.

نجد التطبيق العملي لهذا الفكر في إيران حيث يحكم الملالي، وفي حكومة حماس التي تولّت حكم قطاع غزة منذ عام 2006، واستندت إليه الأخيرة في محاربة السلطة الفلسطينية، وكذلك بعض التنظيمات الإسلامية السلفية المحدودة الحضور في سنوات سابقة. لكنّ ذلك لا يسري على باقي الأفرع الإخوانية في الدول العربية، ومنها لبنان.

إبّان تسلّط الإخوان، نشب خلاف في حماس بين الجناحين السياسي والعسكري وبقي مضبوطاً بفضل العاملَين القطري والتركي اللذين أحدثا توازناً. بيد أنّه بعد أفول آثار الربيع العربي، قام الجناح العسكري في حماس بثورة داخلية مكّنته من الإمساك بالقرار عام 2017. ومذّاك دخلت العلاقة مع إيران مرحلة جديدة، أفضت إلى المصالحة الشهيرة بين حماس ودمشق، التي كانت محلّ انتقادات هائلة من قبل القيادات والأفرع الإخوانية، التي أصدر الكثير منها بيانات علنية ضدّها. وكذلك الحال بالنسبة لدمشق، ولذا بقيت شكليّة.

لدى النخب السنّيّة استياء واسع، حتى تلك القريبة من الحزب وكذلك في الأوساط الدينية من خطاب الجماعة

لماذا نحن؟ ألا تنظرون إلى الحزب؟

لم تكن الجماعة الإسلامية بمنأى عن تأثير المراجعات والصراع الكلاسيكي بين الجناحين المعتدل والراديكالي. مع أنّها لم تصل يوماً إلى المواقع الرئيسة في صنع القرار في لبنان، إلى أن تمكّنت حماس من إقصاء الأوّل وتمكين الثاني من الإمساك بالقرار، عبر استغلال المساحة المشتركة الواسعة بينها وبين الجسم التنظيمي للجماعة. ليست الإشكالية في تحالفات الجماعة، ولا في رغبتها في الوصول إلى السلطة، فكلّ تنظيم سياسي هدفه الوصول إلى السلطة من أجل تطبيق أفكاره. إنّما تكمن الإشكالية في النهج المحدث الذي تتبعه، والذي يخالف تاريخها وتاريخ وتقاليد السنّيّة السياسية.

لدى النخب السنّيّة استياء واسع، حتى تلك القريبة من الحزب. وكذلك في الأوساط الدينية، من خطاب الجماعة، والممارسات السلبية التي تقوم بها، أو التي تسهم في حصولها. لكنّ الغالبية العظمى منهم، وخاصة دار الفتوى ورجال الدين. يحاولون احتواء كلّ ما يجري في الأروقة المغلقة، من باب الحرص على مصلحة السنّة، الذين يمرّون بمرحلة انعدام وزن سياسي تاريخية. تتزامن مع مرحلة دقيقة للغاية تمرّ بها المنطقة على وقع تداعيات حرب الإبادة الإسرائيلية. ويسود فيها عدم اليقين، وتكثر التأويلات لمستقبل مفتوح على كلّ الاحتمالات.

تنظر نخبٌ سنّيّة بقلق إلى انتقال كلّ مظاهر الخروج على القانون والدولة. السائدة في بعض مناطق سيطرة الحزب، إلى الشارع السنّي تحت ذريعة تتكرّر في كلّ مرّة تحاول مؤسّسات الدولة استعادة جزء من هيبتها المفقودة: “لماذا نحن؟ ألا تنظرون إلى الحزب؟”. وهذه المعزوفة أنتجت نغمة “المظلوميّة السنّيّة” التي يجري التوسّع في استهلاكها إلى مديات واسعة جداً. ويرون أنّ الجماعة تسهم، عن قصد أو غير قصد. في تسريع هذا الانتقال وتجذيره، تحت تأثير نشوة مشاركتها المضبوطة من قبل الحزب في حرب الإسناد، وإقبال الإعلام عليها، واهتمام الجانب الإسرائيلي بها.

يعدّ مولوي من روّاد العمل الإسلامي وأحد مؤسّسي الأرضية الفكرية للوجود الإسلامي في أوروبا كان من أشدّ المعارضين لأسلوب العنف

خفّة قيادة الجماعة

ما يبعث على القلق أكثر هو الخفّة التي تتعامل بها قيادة الجماعة الإسلامية مع كلّ ما يحصل، والذي ينبع في نظر العديد من المراقبين من تصدّر رجال الشارع والعضلات والتفكير الأمنيّ على حساب النخب التي هجر الكثير منها الجماعة. ويقارن هؤلاء بين الجيل المؤسّس للجماعة الإسلامية والقيادات الحالية. وخصوصاً الشيخ فيصل مولوي، أحد أبرز فقهائها، وأمينها العامّ بين 1992 و2009.

الجماعة

يعدّ مولوي من روّاد العمل الإسلامي، وأحد مؤسّسي الأرضية الفكرية للوجود الإسلامي في أوروبا. كان من أشدّ المعارضين لأسلوب العنف الذي اتّخذته بعض الجماعات الإسلامية. نظر للتعدّدية السياسية والمجتمعية، وشرعية الدولة، وفقه الواقع والأقلّيات. ونقض نظرية سيّد قطب بقوله إنّ “كلّ البلاد التي يقطنها مسلمون دار إسلام حتى ولو لم تطبّق فيها الأحكام الشرعية”.

وفيما يمكن اعتباره تكريساً لافتراق الجماعة عن الإرث الكبير الذي تركه، فقد غابت عن الاحتفال الذي أقيم منذ أيام في ذكرى رحيله (توفّي 8 أيار 2011). على عكس العام الماضي حينما أقامت ندوة خاصة في الذكرى تحدّث فيها أمينها العامّ محمد طقّوش. وقال إنّ “فلسطين كانت في قلب الشيخ فيصل مولوي”. وعلى الرغم من تأييد الأخير للعمل المقاوم ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، إلا أنّه لم يُعرف عنه يوماً تأييده لأيّ ظهور مسلّح خارج هذا الإطار في شوارع بيروت وصيدا وطرابلس وعكار. وفي ذكرى “غزوة 7 أيار”، كان موقف مولوي منها أنّها “خطيئة من الحزب”، و”جرح أعمق من جراح حرب تموز 2006″، وفق تصريحات صحافية له.

نماذج اعتداليّة

مولوي ومجموعة من المؤسّسين أرسوا مفاهيم تقدّم العمل على نشر الوعي. وإنشاء مؤسّسات العمل الأهلي، والتشديد على الاعتدال في القول والممارسة، على حساب الانسياق نحو السلطة. الأمر الذي يعكس اعتدالاً إخوانيّاً غائباً عن أغلب مراجعات ما بعد حقبة الربيع العربي. ولا سيما حيث لإيران نفوذ أو طموحات، مثل فلسطين ولبنان واليمن، وأخيراً الأردن، لكنّه يبرز في القليل من الدول.

مولوي ومجموعة من المؤسّسين أرسوا مفاهيم تقدّم العمل على نشر الوعي

في المغرب، استعان حزب العدالة والتنمية الإخواني بأحد مؤسّسيه عبد الإله بن كيران. لإطلاق عملية مراجعة داخلية، غداة هزيمته المدوّية في الانتخابات التشريعية في أيلول 2021. بعد 10 سنوات من الحكم، ولم يعلن التمرّد على الدولة مستخدماً الذرائع التقليدية مثل التزوير والمؤامرة. وبن كيران، وهو من رموز الإسلام السياسي في المغرب. أقرّ مع مجموعة من القياديين أواخر الثمانينيات وثيقة الاعتراف بمشروعية النظام الملكي. بعدما كانت الحركة الإسلامية تكفّره، وتولّى رئاسة الحكومة بين 2011 و2017.

خلال ملتقى سياسي للعدالة والتنمية في أيار 2022. اعتبر بن كيران أن “ليس من أهداف ومهامّ الحركات الإسلامية أن تسعى إلى الاستئثار بالحكم، وأن تتصوّر أنّ هذا هو دورها الديني”. ورأى أنّ دورها الأساسي هو نشر الثقافة والتوعية لـ”يأتي الوصول إلى السلطة تتويجاً لتغيير المجتمع”. وهو ما يتّسق مع الفكر الذي أرساه الراحل فيصل مولوي، وكذلك الزعيم التركي نجم الدين إربكان.

الأخير ليس إخوانياً، لكّنه نسج علاقات واسعة معهم، ومع مختلف التيارات الفكرية الإسلامية. ضمن مساعيه لاستنهاض الهويّة الإسلامية في تركيا العلمانية، فاتّخذه الإخوان رمزاً لأنّه يمثّل النموذج الإسلامي الأنجح على الإطلاق. فهو الذي مهّد لوصول تلاميذه في حزب العدالة والتنمية إلى الحكم.

ينبغي على القيادة الحالية للجماعة الإسلامية الاقتداء بنهج الأوّلين والتمعّن بسيَر ومراجعات المعتدلين على قلّتهم

“أبو الأرواح السبعة”

خاض “البروفيسور” صراعاً سياسياً مريراً مع الدولة العميقة، وراوغها لأربعة عقود ونيّف حتى لقّب بـ”أبي الأرواح السبع”. ولم تسجَّل عليه مطلقاً أيّ محاولة للتمرّد على النظام. ولم يحمل لا هو ولا أنصاره سلاحاً، مع أنّ عنوان فلسطين كان الشرارة لانقلابين في 1980 و1997. سُجن مرّتين، وحُكم في آخر عمره بالإقامة الجبرية، وأُخرج من رئاسة الحكومة التي بلغها بالسبل الديمقراطية. بعد سنة واحدة فقط، بانقلاب ناعم عُرف بـ”انقلاب ما بعد الحداثة” في عام 1997. لم يقُل إنّ السلطة مغتصبة وسواها من التعابير الإخوانية الكلاسيكية. بل إنّه في غمرة الاحتجاجات التي اندلعت على خلفيّة الانقلاب، والقرار القضائي بحلّ حزبه “الرفاه”. وفرض حظر سياسي عليه لخمس سنوات، خرج بمؤتمر صحافي طالب فيه أنصاره بـ”السكينة والهدوء”، لتفويت الفرصة على من يريد استغلالهم لإثارة الفوضى. واعتبر قرار المحكمة “نقطة بسيطة في بحر مسيرتنا التاريخية”.

إقرأ أيضاً: عراضة “الجماعة” في عكّار.. ومرحلة ما بعد حرب غزّة

إزاء ما سبق، ينبغي على القيادة الحالية للجماعة الإسلامية الاقتداء بنهج الأوّلين. والتمعّن بسيَر ومراجعات المعتدلين على قلّتهم، وأن لا تعميها أحلام الوصول إلى السلطة عبر أجنحة الحزب عن استغلال الأخير لها مثل “كعب أخيل” سنّيّ. فكلّ ذلك ما هو إلا نشوة لحظيّة، ومهما طال أمدها فستكون آثارها مدمّرة للسُّنّة.

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…