يرسم بعض المهتمّين الأجانب بأزمات لبنان صورة غير متفائلة جرّاء استمرار ربط الحلول فيه بأوضاع المنطقة ولا سيما غزة. لا يقف الأمر عند ما يشهده الجنوب من عمليات عسكرية تتسبّب بسقوط الضحايا وتلحق الدمار بالمنطقة الحدودية. إذ يجنح هؤلاء نحو نوع من السخرية السوداء إزاء المشهد السياسي الداخلي، وحجم المعضلات التي يواجهها البلد، وسط التعقيدات الإقليمية. ولربّما هذا ما يدفع بعض الدبلوماسيين الساعين إلى الحلول، إلى مواصلة المحاولة لعلّهم يحقّقون خرقاً.
يشبّه أحد الدبلوماسيين الأجانب المنخرطين في البحث عن معالجة عناوين التأزّم الداخلي، سلوك الفرقاء اللبنانيين بأنّه مثل “لعب الأطفال بالرمل”.
التشبيه ينطبق على ما شهدته الساحة في الأيام الأخيرة من سجالات حول الشغور الرئاسي، أزمة النازحين السوريين، والحرب في الجنوب.
… لو انتُخِب رئيس قبل 7 أكتوبر
كان يمكن انتخاب رئيس للجمهورية قبل 7 أكتوبر (تشرين الأول)، أي قبل “طوفان الأقصى” التي نفّذتها “حماس”، وأدّت لحرب غزة. يعتبر الدبلوماسي نفسه أنّه لو انتُخِب الرئيس لربّما كان الوضع الآن مختلفاً. فأيّ أزمة يُفترض أن تتحوّل إلى فرصة للتغيير في الوضع السياسي، ومكوّنات هذا التغيير موجودة. فلبنان أخذ دروساً من كلّ الحروب التي مرّت عليه، وهذه الدروس كان يُفترض أن تعين البلد على مقاربة جديدة بدلاً من انتظار تطوّرات المنطقة. كان ذلك فرصة للبنان أن ينفتح على أفكار إيجابية. وعند التعمّق في أخطاء الماضي توضع معايير حول كيفية الإفادة منها من أجل التخطيط للمستقبل. لكنّ هذا غير موجود في لبنان.
الحزب ينتظر وقف القتال في غزة ولا أحد يمكنه التكهّن متى ستضع الحرب أوزارها في القطاع. والأسئلة كثيرة حول هدف الحزب من هذا الربط. فهل هو دعم لغزّة أم لأهداف أخرى؟ وكيف يستفيد لبنان من دعم غزّة؟ الجواب الواضح هو أنّه لا يستفيد.
المعطيات حول فكرة انسحاب الحزب من منطقة الحدود تشير إلى أنّ إسرائيل تعتبر أنّه ليس المهمّ الابتعاد عن الحدود 10 أو 5 كيلومترا
انتخاب رئيس والمفاوضات في الإقليم
لو انتُخِب رئيس لكان ذلك ساعد في أيّ مفاوضات حول مستقبل المنطقة، سواء مع أميركا أو مع أوروبا أو مع الدول العربية. في هذه المفاوضات سيثير فرقاء محلّيون مسألة أحقّية رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن يفاوض عن لبنان. المهمّ أن يستفيد لبنان من الفرص. في 9 حزيران المقبل ستُجرى انتخابات للبرلمان الأوروبي. وهذه ستؤثّر على اختيار المفوضية الأوروبية لسنوات مقبلة، وسترسم نتائجها التوجّهات الأوروبية في الشرق الأوسط، ومنه لبنان. ثمّ في الخريف المقبل (5 تشرين الثاني) ستُجرى الانتخابات الرئاسية الأميركية. ولبنان قريب لأوروبا التي تضمّ معظم الجهات المانحة التي يحتاج إليها لبنان. ولذلك عليه تحضير نفسه بجدّية إذا كان يريد دعماً لمعالجة أزمة النازحين السوريين.
كان يجب التفكير مليّاً، من الناحية الأخلاقية، في الضرر الذي ينجم عن وجود فراغ رئاسي لهذه المدّة الطويلة، في وقت تدور فيه حرب. أمّا الحديث عند البعض عن انتخاب فلان أو فلان وماذا يستفيد هذا الفريق أو ذاك من مجيء هذا الشخص أو غيره فهذا شأن داخلي. وللأسف ليست المرّة الأولى التي يُترك فيها الاستحقاق معلّقاً، في وقت يلحق ذلك الأذى بالبلد. والمناورات التي نشهدها في هذا المجال “أشبه بلعب الأطفال بالرمل”. بدا واضحاً أنّ الاستعانة بهذا المثل هدفه الدلالة على الخفّة أو على صرف الأنظار عن الخطوات الجدّية التي ينتظرها الخارج.
عن تحرّك اللجنة الخماسية في شأن إنهاء الشغور الرئاسي يبرز سؤال منطقي: هل تمكّنت من ابتداع أفكار جديدة؟ والجواب هو أنّ من الأفضل أن تضع جدولاً زمنياً لنشاطها وجهودها. فالخماسية لا تنتج الرئيس الجديد. مهمّتها أن تشجّع جهوداً لبنانية لانتخابه. وعندما يقول فرقاء لبنانيون فلتسمِّ الخماسية الرئيس، فهذا أيضاً كلعب الأطفال بالرمل.
المسألة الجوهرية بالنسبة إلى لبنان تتعلّق بالدور المستقبلي للحزب بعد أن يتمّ التوصّل إلى حلول
تبادل الرسائل جنوباً وأفكار هوكستين
عن المواجهات الدائرة على الجبهة الجنوبية، يلفت الدبلوماسي الأجنبي، على الرغم من الحديث عن قواعد اشتباك، إلى استخدام إسرائيل تكنولوجيا جديدة مكّنتها من تدمير قواعد الحزب، الذي يردّ عليها بدوره. وبات الجانبان يقصفان في العمق. لكن لا معطيات واضحة عن نيّة إسرائيل توسيع الحرب على لبنان، لأنّ الأمر مرتبط بمجريات الحرب في غزة وفق تكتيك الحزب. إنّه يشبه تكتيك التفاوض في غزة بين “حماس” وإسرائيل. والحزب وإسرائيل يعرفان بعضهما جيّداً، وهما يتبادلان الرسائل منذ 18 سنة في إطار الحرب النفسية وميدانياً وسياسياً.
لدى الدبلوماسي انطباعات عن أنّ الحلول في الجنوب تتضمّن تطبيق القرار الدولي الرقم 1701. إذ قيل إنّ الوسيط الأميركي آموس هوكستين ورئيس البرلمان نبيه بري تفاهما عليها. أوساط الحزب انتقدت الورقة الفرنسية. هناك بعدٌ آخر لدى الحزب يتعلّق بثقته بهوكستين، لدوره في التوصّل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية في عام 2023. ويلفت إلى أنّ للدور الفرنسي قيمة مضافة للأسباب الآتية:
دور فرنسا “حاملة القلم”
– فرنسا عضو في مجلس الأمن مثل الولايات المتحدة. ولديها قوات على الأرض في إطار “اليونيفيل”. ولديها اهتمام تاريخي معروف بلبنان منذ زمن.
– تحمل القلم في شأن القرارات التي تصدر عن مجلس الأمن في شأن لبنان. فهي التي تصوغها على الدوام.
– الورقة التي قدّمتها هي الأولى المكتوبة التي قدّم الرئيس بري جواباً عليها. وهذا أمر مفيد حتى يعرف المواطنون اللبنانيون ما هو المطلوب لتحسين الأوضاع في البلد.
– هوكستين ينسّق مع الجانب الفرنسي، وما تتضمّنه ورقة باريس موجود في الأفكار التي طرحها الوسيط الأميركي.
– الدبلوماسية الفرنسية تعتبر أنّ المهمّ حصول مناقشة للأفكار التي قدّمتها باريس، ولِما هو مطلوب من الحزب.
لا يتردد الدبلوماسي في وصف الحملة على الورقة الفرنسية بأنّها مثل آخر على “لعب الأطفال بالرمل”.
يشبّه أحد الدبلوماسيين الأجانب المنخرطين في البحث عن معالجة عناوين التأزّم الداخلي، سلوك الفرقاء اللبنانيين بأنّه مثل “لعب الأطفال بالرمل”
المعطيات حول فكرة انسحاب الحزب من منطقة الحدود تشير إلى أنّ إسرائيل تعتبر أنّه ليس المهمّ الابتعاد عن الحدود 10 أو 5 كيلومترات. فالمسافة خاضعة للمناقشة. لكنّ الأهمّ بالنسبة إلى الدولة العبرية ضمان ألّا تحصل ردود فعل ضدّ أراضيها.
رسائل إيران بين الباطن والظاهر
المسألة الجوهرية بالنسبة إلى لبنان تتعلّق بالدور المستقبلي للحزب بعد أن يتمّ التوصّل إلى حلول. فهل يكون “متحرّراً” (من التزاماته المفترضة مع إيران) في الحياة السياسية اللبنانية؟
لدى إيران مصالح إقليمية مختلفة. صحيح أنّها تفكّر بطريقة حكيمة كدولة ذات حضارة عريقة. لكن مع أيديولوجية الثورة باتت بحاجة إلى الخروج من البيئة المقفلة الراهنة. حاولت بناء علاقة مع المملكة العربية السعودية، فهل تأتي هذه الخطوة في إطار المنافسة مع الدول الأخرى، أم في إطار الانفتاح على المملكة؟ ليس سهلاً عليها أن تغيّر في طبيعة الثقافة الشيعية التي تعتمدها والدور الذي تعطيه للإمام والوليّ الفقيه. فهذه تركت أثراً في الحياة اليومية، ومنها مفهوم الباطن والظاهر. وبات ذلك جزءاً من التفاوض، ولذلك هم يتعاطون بالرسائل التي على الآخرين أن يفهموها بشكل صحيح.
إقرأ أيضاً: الخيبة العربيّة من وعود دمشق تسبق الأسد إلى المنامة
في البعد العسكري لدور إيران على الرغم من أنّها الآن ضدّ توسيع الحرب، تبعث بالرسائل عن طريق الحزب لكنّها تفكّر بهدوء. فقد كسبت طهران الكثير من دعمها للقضية الفلسطينية. لذلك هناك فارق بين دعمها لـ”حماس” سياسياً وعسكرياً، وبين استثمار ذلك لأهداف أخرى تتعلّق بالنفوذ الإقليمي.
تشبيه السياسيين اللبنانيين بـ”الأطفال الذين يلعبون بالرمل” ينطبق أيضاً حسب الدبلوماسي على ردّة الفعل حيال منحة المليار يورو الأوروبية.
لمتابعة الكاتب على X: