“إنّ أدنى مراتب الجحيم مرصودة لمن يتّخذون موقف الحياد في القضايا ذات الطابع الأخلاقي” (دانتي).
يقول الصحافي الكبير في صحيفة هآرتس الإسرائيلية جدعون ليفي، وهو اليهودي المرتدّ عن الصهيونية، إنّ حرّية الإعلام في إسرائيل مضمونة بالنسبة لليهود. ما يعنيه هو أن لا أحد يفرض رقابة مسبقة ولا محاسبة ملحقة على حرّية الإعلام مهما بلغت معاداته لسياسات الدولة العبرية، أكان في السلم أم في الحرب. كلّ وسائل الإعلام تقريباً مستقلّة وتبغي الربح، لكن لأنّها تبغي الربح فهي تسعى إلى إرضاء الرأي العام اليهودي، وهو بأكثريته الساحقة أعمى، أي يرى بعين واحدة ويفهم فقط بمنطق واحد ويطرب فقط للغة واحدة.
إرضاء المشاهدين أوّلاً
من هنا، وعلى الرغم من أنّ الإعلام العالمي ينقل بشكل واسع وقائع ما يحدث في غزة، إلا أنّ معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية لجأت إلى سياسة إرضاء المشاهدين والقرّاء بعدم عرض أيّ شيء يتعلّق بما يحدث في غزة، وتجنّب عرض معظم ما يعرضه الإعلام العالمي، وركّزت على الترويج لفكرة الدفاع عن إسرائيل ومستقبلها من أجل تجنّب هولوكوست جديد، وعرضت مشاهد للجنود في أرض المعركة في المواجهات من دون أن تعرض الدمار والخسائر البشرية والمأساة من ناحية غزة. حتى بالنسبة لأهالي المحتجزين عند حماس، فإنّ التركيز هو على تضحيات الجيش الإسرائيلي في مسعاه لتحريرهم.
على الرغم من أنّ الإعلام العالمي ينقل بشكل واسع وقائع ما يحدث في غزة، إلا أنّ معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية لجأت إلى سياسة إرضاء المشاهدين والقرّاء
بالنسبة إلى ليفي، فإنّ الإعلام الإسرائيلي، على الرغم من حرّيته النظريّة، خائن لمبدأ الصحافة الحرّة لأنّه يعرض البروباغاندا التي تُطرب الرأي العام الإسرائيلي، ويتحاشى واجباته بعرض الحقائق حتى لا يتواجه مع الجموع المتعصّبة ولا تتدنّى نسبة المشاهدة والمتابعة عنده. يعني أنّ السبب الرئيسي لذلك يعود إلى الحرّية الليبرالية التي تسعى إلى الربح حتى لو على حساب الحقيقة والأمانة في نقل الأخبار. هذا يحصل حتى من دون حاجة إلى توجيهات رسمية، ولا يقع تحت المحاسبة الجنائية حتى في زمن الحرب. ومع أنّ صحيفة هآرتس اليسارية المعارضة ما زالت تعرض وجهة نظر مخالفة بشكل جذري لشبه الإجماع الإسرائيلي، فلا أحد يمنعها من ذلك لأنّ الكيان العبري يريد أن يحافظ على حرّية الرأي حتى لا يتمّ اتّهامه بالشمولية، كما أنّ قلّة قرّاء الصحيفة تجعلها ضئيلة التأثير في مجتمع لا يريد أن يسمع غير مظلوميّته المستندة في معظم الأحيان إلى التاريخ البعيد الأسطوري حول التوراة والدياسبورا، والقريب المثبت حول الهولوكوست.
من هنا يجنّ جنون الملتزمين بالصهيونية الدينية أو العنصرية عندما تتمّ مشابهة ما يحدث في غزة بإبادة جماعية أو تشبيه غزة بمعسكرات الاعتقال أو التذكير بأنّ ما يقوم به جيش إسرائيل يتماثل مع ما فعله النازيون. فهذا الأمر يحرمهم من أسطورة المظلومية التي جعلت منهم قوماً فوق العادة لا يحاسَبون ولا يساءلون كغيرهم من البشر.
الإعلام الإسرائيلي، على الرغم من حرّيته النظريّة، خائن لمبدأ الصحافة الحرّة لأنّه يعرض البروباغاندا التي تُطرب الرأي العام الإسرائيلي
الإسرائيليّ لا يرى أيّ شيء
يعود جدعون ليفي ليؤكد أنّ أصوات الفلسطينيين كضحايا للوحشية الإسرائيلية لا تُسمع بتاتاً في إسرائيل ولا تصل إلا إلى ضمير القلائل منهم لأنّها ستعادلهم في المظلومية مع آخرين، لا بل تجعل منهم جلّادين تجدر محاسبتهم وصدّهم بدل كونهم ضحايا وجبت مسامحتهم والتغاضي عن هفواتهم بحكم التعويض عن المظلومية. من هنا، لا يرى الإسرائيلي أيّ شيء، لا بل يتحاشى أيّ شيء يمكنه أن يحرمه من حصانة المظلومية، فيرى في كلّ شيء في غزة مقاتلاً من حماس كسر وهم المناعة في دولة يهودية. فلا الجوع ولا المرض ولا الموت ولا الدمار ولا الطفل الرضيع يعنيهم بشيء. هنا يؤكّد ليفي أنّ القضية لم تبدأ في السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، فقضية خيانة الحقيقة في وسائل الإعلام الحرّ في إسرائيل مستدامة منذ عقود وحتى قبل إنشاء دولة إسرائيل، واستمرّت بتغطية الاحتلال وممارساته ضدّ الفلسطينيين بشكل يومي وبتجريدهم من حرمة إنسانيّتهم وحقّهم بالحياة كبشر. يعني أنّ فساد هذه الوسائل لم يبدأ مع السابع من أكتوبر، بل هو سياسة منهجية لإعلام رأسمالي يريد أن يرضي المتابعين بدل القيام بواجباته. ويعتقد ليفي أنّه لو قام الإعلام الإسرائيلي بواجباته لكان بالإمكان تطوير الرأي العام إلى دعم حلول مجدية تسمح لليهود والعرب العيش معاً من دون عنف منظّم.
يعود جدعون ليفي ليؤكد أنّ أصوات الفلسطينيين كضحايا للوحشية الإسرائيلية لا تُسمع بتاتاً في إسرائيل ولا تصل إلا إلى ضمير القلائل منهم
يستطرد ليقول إنّ واقع الأمر اليوم هو وجود حكومة تحتاج إلى استمرار الحرب إلى أبعد مدّة ممكنة لتتجنّب السقوط والمحاسبة، وهي مدعومة بالمجهود الحربي بجنوح الأكثرية الساحقة من الإسرائيليين نحو الاستمرار، وهو ما يعني المزيد من النكبات للفلسطينيين وأعداداً كبيرة من القتلى من الجنود الإسرائيليين، وزوال أيّ أمل بإطلاق المخطوفين المحكومين بالموت بسبب قرار إسرائيلي. كلّ ذلك من دون أفق أو حلول مستدامة غير بعض الهدن المؤقّتة التي لا تلبث أن تنهار ما بقي الاحتلال قائماً.
هكذا يمكن أن يخدم الإعلام الحرّ في نظام ديمقراطي منطق الشمولية الشعبوية التي تخدم السلطة وتتجاهل الحقيقة. جدعون ليفي يهودي تربّى صهيونياً، لكنّه اليوم مثال لبشر تمكّنوا من تحطيم أصنام الشعبوية والتعصّب ليخدم الحقيقة حتى ولو على حساب الرأي العام.
إقرأ أيضاً: أميركا تقتل “قِيَمها” بيدها