أميركا تقتل “قِيَمها” بيدها

مدة القراءة 5 د

عند الحديث عن الجامعة لا يقال مقرّ الجامعة أو مبناها، بل يقال حرمها، لأنّ لهذا المكان التربوي والتعليمي احتراماً خاصّاً ومكانة خاصة تماثل مكانة دور العبادة. وإضفاء كلمة “الحرم” على هذا الصرح يعني حماية مهمّته الحضارية واستقلاله الكامل عن كلّ أنواع التدخّلات الخارجية، و”حرمان” شتّى أنواع السلطات. لا سيما السياسية منها والأمنيّة، من تجاوز حدوده وإلزامها باحترام خصوصيّته. وعليه فإنّ اقتحام قوات الأمن لأيّ جامعة ليس تفصيلاً أو أمراً عابراً. بل إنّه اختراق سافر لقيمة أساسية من القيم العالمية.

 

أميركا تقتل بيدها

ما يحدث في الجامعات الأميركية من قمع لطلّاب مسالمين يحتجّون سلميّاً خلف أبوابها على سياسات خارجية لا تتماشى مع قيم ومبادىء تتعلّق بالعدالة والحرّية والديمقراطية والاعتراف بالآخر ورفض الظلم البشري وإدانة الجرائم ضدّ الإنسانية. هو خرق فاضح وهائل لأبرز أسس الدولة الكبرى في العالم التي تدّعي ليل نهار أنّها الحامي الأبرز للديمقراطية والمدافع الأساس عن الحرّيات في المعمورة.

على عكس بعض الدول الأوروبية، تعدّ معارضة إسرائيل في الولايات المتحدة حقّاً يحميه الدستور. وكلّ الأفراد أو الجماعات أحرار في التعبير عن آرائهم حول هذه القضية، أو أيّ قضية أخرى دون خوف من أيّة عواقب قانونية. إذ يضمن التعديل الأول للدستور لعام 1791 حرّية التعبير والحقّ في الاحتجاج السلمي أو التظاهر.

على مدار العقود اللاحقة، توسّعت حقوق التعبير بدرجة كبيرة من خلال سلسلة من قرارات المحاكم الفدرالية والمحكمة العليا، التي حمت مختلف أشكال الخطاب السياسي، من الحملات الانتخابية والموادّ الإباحية والموادّ الدعائية.

لكن فجأة، وفي تقليد رديء لما يجري في ديكتاتوريات العالم الثالث. أميركا تقتل بيدها ما تدّعيه من قيم ومبادىء. لا بل تهدم بالهراوات الساقطة على رؤوس الطلاب والكلبجات في أيديهم. كلّ البناء الديمقراطي الذي تقول إنّها شيّدته. وتحرف الجامعة عن وظيفتها الحضارية كرمى لعيون كيان يحتلّ أرض غيره ويحترف فنون الإبادة الجماعية اسمه إسرائيل.

فجأة، وفي تقليد رديء لما يجري في ديكتاتوريات العالم الثالث، أميركا تقتل بيدها ما تدّعيه من قيم ومبادىء

الجامعة بحسب الفيلسوف الإنساني إيمانويل كانط، هي “المكان الذي تقال فيه الحقيقة من خلال البحث والنقاش”. هكذا، فإنّ الإدارة الأميركية عندما تطلق جحافلها المسلّحة والحرّاس المدجّجين بالهراوات والمعزّزين بالآليّات وطائرات الهليكوبتر. في اتجاه تجمّعات من نخبة الطلاب والأساتذة المعتصمين في باحات جامعات عريقة مثل كاليفورنيا وكولومبيا وييل وهافين. احتجاجاً على حرب اقتلاع غزة وسكّانها من جذورهم، فإنّ ذلك يعني محاولة منها لكمّ الأفواه وقتل الحقيقة التي بدأت تتكشّف أمام النخب الأميركية بأنّ القضية الفلسطينية هي قضية حقّ، وأنّ الفلسطينيين شعب أُهدرت حقوقه ظلماً. وهم الضحيّة المفعول بها وفيها، وأنّ إسرائيل والاستعمار والغرب هم الفاعل والمغتصب والجلّاد. حقيقة كهذه يجب أن تبقى قيد الكتمان ولا يجوز أن تظهر للملأ الأميركي، لأنّها تدحض كلّ الأكذوبة التاريخية التي سوّقها الغرب لتثبيت إسرائيل كركيزة لاستعمار الشرق الأوسط وتفكيك البنيان العربي فيها والعروبة. وبنى على أساس وجودها نظاماً إقليمياً غير متكافىء قلب الموازين البشرية السياسية في المنطقة وشوّه وجهها.

أميركا

إبادة في غزّة وسحلٌ في أميركا

واشنطن تريد أن تدفن الحركة الطالبية في مهدها قبل أن تنمو وتكبر وتصير كرة ثلج. وتحدث تحوّلاً في الرأي العامّ من شأنه أن يطيح كلّ ما صنعته السياسات الأميركية والأموال الباهظة التي صُرفت على الكيان لتثبيت دعائمه. وكي لا يتكرّر في فلسطين ما حدث في فيتنام وجنوب إفريقيا في الربع الأخير من القرن الماضي. لكنّ صنّاع السياسة الأميركيين يدركون أنّ الأمر في فلسطين مختلف، فهنا قلب العالم. بينما فيتنام وجنوب إفريقيا تقعان على الأطراف وتأثيراتهما على المشهد العالمي محدودة ومحصورة. هنا إذا ما حدث التحوّل الكبير والتغيير الاضطراري، وعاد الحقّ لأصحابه، فإنّ النتائج والارتدادات ستكون أفظع بكثير على المنظومة الغربية برمّتها. هنا من شأن انقلاب المشهد والتغيير أن يرسما صورة نظام عالمي جديد. لا يمكن توقّع طبيعته ولا شكله ولا أضلعه ولا الفاعلين، وقد لا تقدر واشنطن على هضمه بعد.

واشنطن تريد أن تدفن الحركة الطالبية في مهدها قبل أن تنمو وتكبر وتصير كرة ثلج وتحدث تحوّلاً في الرأي العامّ

في موازاة حرب الإبادة في غزة، تجري عمليات السحل في معاقل الفكر والعقل والحرّية في أميركا. فالغرب الذي لطالما مجّد روح النقد والفضول العلمي والبحث عن الحقيقة والتمرّد. وأعطى الجامعات دوراً مركزياً في صون الحرّية والدفاع عنها. يضرب اليوم عرض الحائط بكلّ ما يدّعيه من مبادئ وقيم، ويدفع بمؤسّساته التربوية. رمز ازدهاره ورفاهه وتفوّقه، بالقوّة خلف أقفاص الانعزال والانغلاق على الذات والتقوقع والنسخ الجديدة من العنصرية.

إقرأ أيضاً: !God Bless America

المجتمع الأميركي الذي نام طويلاً على وهم الحرّية أيقظته قرقعة السلاح في حرم الجامعات على واقع اضطهادها. غزة وضعت أميركا أمام استحقاقات صعبة، فهل آن أوان التغيير؟

مواضيع ذات صلة

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…

كنّا نخاف منه وصرنا نخاف عليه

قبل عام 1969 كان العالم العربي والإسلامي يتدافع نحو أخذ صورة مع جمال عبدالناصر، ثمّ بعد العام نفسه صار العرب والمسلمون ومعهم عبدالناصر يتدافعون للوقوف…

دعاية “الحزب” الرّديئة: قصور على الرّمال

لا تكفي الحجج التي يسوقها “الحزب” عن الفارق بين جنوب الليطاني وشماله للتخفيف من آثار انتشار سلاحه على لبنان. سيل الحجج المتدفّق عبر تصريحات نوّاب…

معايير أميركا: ملاك في أوكرانيا.. شيطان في غزّة

تدور حرب ساخنة في كلّ من أوروبا (أوكرانيا)، والشرق الأوسط (غزة – لبنان). “بطل” الحرب الأولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، و”بطل” الحرب الثانية رئيس الوزراء…