“رسالة عاجلة من أرض قمعستان:
قمعستان… تلك التي تمتدّ من شواطىء القهر إلى شواطىء القتل
إلى شواطىء السحل إلى شواطىء الأحزان
ملوكها يقرفصون فوق رقبة الشعوب بالوراثة
ويفقأون عيون الأطفال بالوراثة
ويكرهون الورق الأبيض والمداد والأقلام بالوراثة
ويلغون غريزة الكلام في الإنسان”
(نزار قبّاني)
خلال مروري منذ أيام في شوارع قريبة من برج حمّود، شاهدت لافتات منشورة في بعض المواقع، في ذكرى الإبادة الأرمنية… تقول إنّ الإرهاب واحد والإجرام واحد والتطهير العرقيّ يسمّى باسم واحد. ولا فرق فيها من حيث عرق أو دين الضحيّة أو عرق أو دين المجرم. تحدّثت اللافتات عن غزة بالعاطفة ذاتها التي تحدّثت بها عن أرمن تركيا.
في فترة التحضير لترشيح الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى انتخابات الولاية الثانية، شنّ مرشّحون للانتخابات الرئاسية الأميركية حملة عليه، على خلفية تصريح يقارن تنظيم الدولة الإسلامية وتطرّفه بتطرّف “الصليبيين” خلال الحملات الصليبية. كان أوباما قد أضاف أنّ “الوحشية والإرهاب لا يقتصران على منطقة دون أخرى. فالحقيقة هي أنّه خلال الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، التي أقيمت في الأندلس، بعد هزيمة المسلمين هناك، ارتكب البعض أفعالاً شنيعة باسم المسيح. وفي بلدنا جرى استخدام المسيحية لتبرير العبودية وفرض قوانين التمييز العنصري”.
في الولايات المتحدة الأميركية، حيث لا يزال نصف الناخبين يؤمنون بقصص التوراة على أساس أنّها حقيقة مطلقة، اعتبر المرشّحون المنافسون تصريحات الرئيس بأنّها “مهينة وغير لائقة بالمؤمنين”، أي الصليبيين المتطرّفين.
في كتاب “الحروب الصليبية كما رآها العرب” للكاتب المسيحي – العلماني، اللبناني – الفرنسي، أمين معلوف، عرض بكلّ موضوعية محطّاتٍ من تلك الحقبة. وكان واضحاً جنوح الكاتب نحو هجاء “تخلّف ووحشية الصليبيين”، بالمقارنة مع نوع من الثناء على حضارة المسلمين في مسائل شتّى. واحترام شديد لقادتهم مثل نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي.
إنّ قضية حقوق الإنسان مسألة لا تتحمّل النفاق. فضحايا الظلم والإبادة لا دين لهم ولا عرق. فهم أرمن وكلدان وأشوريون وغيرهم في تركيا العثمانية
إنّها الموضوعية أيّها الناس. وهي القدرة على رؤية الوقائع بمنظار أبعد من القرية والمدينة والوطن والجماعة الدينية. وهي الأسمى من العقيدة والقومية والطائفة. هي القدرة على اتّباع المعايير ذاتها في التوقّف أمام الحدث وبناء الانطباع عنه، وصولاً إلى أخذ الموقف منه.
سأثير غضب مدينتي
إنّها الأخلاق التي تسمو فوق العصبيّات. إنّها الفكر الإنساني المتحرّر من العِقد والقادر على مواجهة الأفكار المسبقة والموروث الاجتماعي والإرهاب المجتمعي، ليقف ويخالف ويحتجّ ويقول ما يراه أنّه حقّ. حتى لو أدّى به ذلك إلى أن يُكفّر أو يُخوّن لأنّ “أعظم الجهاد هو كلمة حقّ عند سلطان جائر”.
من هنا، فأنا أعرف الآن بأنّني سأثير غضب البعض في مدينتي، التائهة بين إرث عربي ومملوكي وعثماني وإسلامي. والتي ينتقي مؤرّخوها وعائلاتها التقليدية جزءاً من تاريخها فيستندون إليه كحقيقة مطلقة. ويتناسون حقبات طويلة منه، لا تتناسب مع فرضيّاتهم عنها. في حين أنّ الكثيرين من الأكاديميين الإسبان اليوم، أحفاد توركيمادا المحقّق الأكبر الذي قاد التطهير الديني عشيّة 1492 في الأندلس، ضدّ اليهود والمسلمين، وأحرق كتبهم المقدّسة ونتاجهم العلمي والفلسفي والأدبي، يعودون اليوم لفتح صندوق التاريخ. وذلك لإصلاح ما خرّبه التعصّب والسعي إلى محو الحقيقة. يؤكّد هؤلاء أنّ إرث إسبانيا التاريخي والإنساني والثقافي هو مزيج من الإسلام والمسيحية واليهودية. وأنّ اللغة هي كذلك. وأنّ حداء الفلامنكو ما هو إلا تعبير عن ذاك الإرث المشترك.
لماذا يدافع الغرب عن العثمانيين؟
في خضمّ كلّ ذلك لم أفهم هذه الحماسة الغريبة في الدفاع عن الدولة العثمانية بخصوص قضية هي أصلاً موضع جدل ونقاش بين الأتراك أنفسهم. لقد راجعت وقائع القضية الأرمنية. ولقد كان واضحاً أنّ السلطات التركية قامت بمحاكمات في تلك الحقبة لمسؤولين عن تلك المجازر بحقّ “مواطنين من رعايا الدولة التركية”. وحُكم على بعضهم بالإعدام. ونجا كثيرون آخرون بتسويات دولية.
الشيء المؤكّد هو أنّ أرمن السلطنة العثمانية لم يفعلوا سنة 1915 أكثر ممّا قام به عرب السلطنة العثمانية بزعامة الشريف حسين في الحجاز
الشيء المؤكّد هو أنّ أرمن السلطنة العثمانية لم يفعلوا سنة 1915 أكثر ممّا قام به عرب السلطنة العثمانية بزعامة الشريف حسين في الحجاز. فهل نحلّل للعرب نزعتهم إلى الاستقلال وتقرير المصير ونحرّم ذلك على الأرمن؟ فلو كان العرب مكان الأرمن في تلك الفترة فما كان الموقف؟
لنفرض جدلاً أنّه كان للدولة التركية الحقّ بقمع النزعات الانفصالية. خاصة في ظلّ الحرب العالمية الأولى والتهديد الروسيّ التاريخي لحدود السلطنة العثمانية. لكنّ ذلك لا يسوّغ إبادة المدن والقرى وهدم البيوت وتجويع النساء والأطفال. إضافة إلى فظائع أخرى هي جرائم حرب موصوفة.
ولو فرضنا أنّ كلّ ذلك تمّ تضخيمه نوعاً وكمّاً، وأنّ بعض تفاصيله أصبح جزءاً من الأساطير الشائعة والتقليد الكلامي المرتبط بتأريخ الشعوب لتاريخها… إلا أنّ واقعة “الترانسفير” أمر لا يمكن إنكاره. وكانت وقائعه تشبه الإبادة عندما دُفع المدنيون العزّل والعجّز والنساء والأطفال للسير في شبه صحراء قضى الكثيرون منهم فيها جوعاً وعطشاً ومرضاً.
أهل غزّة.. والأرمن
قد لا يكون لكثير من أبناء مدينتي الرغبة في إبداء تضامنهم أو حتى تعاطفهم مع القضية الأرمنية… لكنّ المنطق يقول إنّ من يثور ويتعاطف مع أهل غزة اليوم الذين يرزحون تحت ظلم الإبادة الصهيونية، عليه أيضاً أن يتعاطف ويثور لأجل أيّ مظلوم في الماضي والحاضر والمستقبل.
إنّ قضية حقوق الإنسان مسألة لا تتحمّل النفاق. فضحايا الظلم والإبادة لا دين لهم ولا عرق. فهم أرمن وكلدان وأشوريون وغيرهم في تركيا العثمانية. ويهود ومعاقون وغجر وسلافيون في ألمانيا النازية. ومعارضون للشمولية الشيوعية في الاتحاد السوفيتي. وفلسطينيون تحت الاحتلال الصهيوني. وأكراد تحت حكم صدّام. وسوريون تحت براميل الأسد. وأيزيديون في مواجهة داعش في سهل نينوى. وكلّهم من “أمّة الضحايا”، والقتلة أيضاً من “أمّة واحدة”.
إقرأ أيضاً: عن فلسطين ولعنة وحدة السّاحات
لمتابعة الكاتب على X: