عن فلسطين ولعنة وحدة السّاحات

مدة القراءة 6 د

“راح أحمدُ يلتقي بضلوعه ويديه… كان الخطوةَ النجمهْ

ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط… كانوا يُعدّون الرماحَ

وأحمدُ العربيّ يصعد كي يرى حيفا ويقفزَ.

أحمدُ الآن الرهينهْ، تركتْ شوارعَها المدينهْ، وأتتْ إليه لتقتلهْ”

(محمود درويش)

 

 

يقول بعض الأكاديميين الأميركيين إنّ حرب 1967 كانت الحدث الذي دفع الولايات المتحدة الأميركية إلى السعي إلى التحالف العسكري اللصيق مع إسرائيل. مع العلم أنّ أميركا ذاتها وقفت بحزم بوجه إسرائيل وفرنسا والمملكة المتحدة وأجبرت إسرائيل على الانسحاب من سيناء سنة 1956 يوم العدوان الثلاثي على مصر. لكن تمكُّن إسرائيل من هزيمة ثلاثة جيوش عربية في حرب خاطفة واحتلال أضعاف الأراضي التي كانت تحتلّها قبل ذلك… دفع قادة أميركا المنشغلين في حرب فيتنام إلى اعتماد إسرائيل امتداداً لمصالحها وموقعاً عسكرياً متقدّماً في قلب منابع النفط. في ظلّ الحرب الباردة التي كانت على أشدّها في تلك الأيام.

لم يكن غريباً على الأميركيين المغرمين بالأساطير التوراتية أن يستذكروا قصة داود الولد الصغير الحجم وجالوت “الفلسطيّ” العملاق، وكيف تمكّن داود (إسرائيل) من القضاء على جالوت (العرب مجتمعين) بذكائه واستعماله “تكنولوجيا” المقلاع. وأشعل ذلك بالطبع مشاعر الإنجيليين بقرب عودة المسيح بعد عودة اليهود إلى أرض فلسطين.

“وحدة الساحات” الغربية

لا داعي لتعداد ما جنته دولة الاحتلال والفصل العنصري من “وحدة الساحات” مع الغرب وأميركا المبنيّة على الأساطير. لكن ماذا عن الفلسطيني الرازح منذ خمس وسبعين سنة تحت نير الاحتلال والقمع وفقدان الأمل؟

“وحدة الساحات” مع فلسطين جعلت منها قضية العرب شبه الوحيدة، فخاض العرب الحروب باسم فلسطين

في البداية لجأ الفلسطينيون إلى العرب لوحدة الساحات معهم. كانت دول العرب الناشئة لا تزال تحت حكم الاستعمار عمليّاً، أو تعاني بشدّة من آثاره. وظنّي هو أنّ هذا الاستعمار ذاته دفع الدول العربية المشاركة في النكبة إلى خوض الحرب. ربّما لإعطاء فرصة للعصابات الصهيونية، كما كنّا ندعوها، لكسب المزيد من الأراضي على حساب الفلسطينيين، متجاوزة خطوط التقسيم التي فرضتها الأمم المتحدة. ومن يظنّ أنّ داود يومها كان ضعيفاً، فقد كان تعداد القوات الصهيونية حوالى مئة ألف مسلّح بشكل جيّد، في حين أنّ عدد قوّات جالوت مجتمعة وصل إلى خمسة وثلاثين ألفاً، معظمهم من المتطوّعين غير المدرّبين إلا بحميّتهم واستعدادهم لنيل الشهادة. فيما خرج أكثر من سبعمئة ألف فلسطيني من قراهم ومنازلهم “بشكل مؤقّت” حاملين مفاتيح البيوت، على أساس أنّ وحدة الساحات ستمكّنهم من العودة بسرعة! وما زال هؤلاء، بسبب “وحدة الساحات” التي حوّلت قضية فلسطين إلى قضية العرب الكبرى، ينتظرون في مخيّمات تحوّلت إلى مدن عشوائية.

“وحدة الساحات” مع فلسطين جعلت منها قضية العرب شبه الوحيدة، فخاض العرب الحروب باسم فلسطين. وفي كلّ مرّة كانت تتساقط أراض جديدة في يد الصهاينة، ويدفع الفلسطينيون المزيد من الخسائر بحجّة وحدة الساحات تلك. وحتى بعدما أصبحت فلسطين قضيّة المسلمين فوق العرب، وفي ظنّ الفلسطينيين الذين احترفوا “الحزن والانتظار” أنّ انتماءهم إلى مليار ونيّف من المسلمين سيدعم عودتهم ويدعم العرب لهزيمة إسرائيل. لكن منذ أن تحوّلت وحدة الساحات من العرب إلى المسلمين، استمرّت خسائر الفلسطينيين وانتُهكت حرمة المسجد الأقصى مرّات ومرّات.

وفي ظلّ وحدة الساحات الإسلامية، أتى متعصّب اسمه مايكل دنيس روهن من أستراليا وأحرق المسجد الأقصى. قالت يومها غولدا مائير: “لم أنم ليلتها وأنا أتخيّل العرب (والمسلمين) سيدخلون إسرائيل أفواجاً من كلّ صوب، لكن عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء، أدركت أنّ باستطاعتنا فعل ما نشاء، فهذه أمّة نائمة”.

عندما سقط “أوسلو” ظنّت فلسطين أنّها وجدت ضالّتها في “وحدة ساحات” جديدة مع الممانعين التابعين لولاية الفقيه. فدمّرت وحدة الساحات لبنان وسورية والعراق واليمن

نهاية “وحدة الساحات” العربية في 1973

فيما ظنّ الفلسطينيون أنّهم في ساحة موحّدة في الأردن، حصلت حرب عمّان لينفصل الأردن عن وحدة الساحات. لم تنفع وحدة الساحات مع “اليسار القومي العربي” في إنقاذ منظمة التحرير من الطرد من الأردن. ما عدا محاولة بائسة من لواء مدرّع في الجيش السوري، عبر الحدود إلى إربد من دون غطاء جوّي. فكان يكفي تحليق طائرات إسرائيلية فوق تلك القوّة لتنسحب من دون اشتباك.

من بعدها، تفرّق العشّاق، وصار كلّ طرف من المتّحدين في الساحة يبحث عن إربه، أكان حرباً أم سلماً. فحُرم الفلسطينيون المسلّحون من المشاركة في حرب 1973 حتى لا يكون لهم دور في التسويات التي انتهت بعودة سيناء إلى مصر مقابل خروجها من الساحة، وحصول سورية على القنيطرة ثمّ السيطرة على لبنان. ومن بعدها، لم تنفع “وحدة الساحات” العربية والإسلامية فلسطين ولبنان يوم اجتاحت إسرائيل الجنوب واحتلّت بيروت سنة 1982. فانسحب الجميع ونفضوا أيديهم وتبرّأوا من دم الصدّيق.

وحتى عندما لجأت فلسطين إلى آخر الدواء بتوقيع اتفاق أوسلو خرجت من الساحات العربية والإسلامية، بعدما سُدّت كلّ الأبواب في تلك الساحات. وتنصّل منها الجميع وتُرك شعبها يتألّم تحت الاحتلال والعهود المنقوضة.

عندما سقط “أوسلو” ظنّت فلسطين أنّها وجدت ضالّتها في “وحدة ساحات” جديدة مع الممانعين التابعين لولاية الفقيه. فدمّرت وحدة الساحات لبنان وسورية والعراق واليمن بحجّة إسناد فلسطين واستعداداً ليوم معركة التحرير الأسطورية الكبرى. ووجدت فلسطين نفسها وحيدة تنزف من بشرها وأطفالها، فيما وحدة الساحات الجديدة تناوش وتساوم على حساب عدد الضحايا.

إقرأ أيضاً: الحرب قد تدوم سنةً والفوضى الإقليميّة والترانسفير قادمان؟

فلسطين تصرخ اليوم: “أنقذوني من أصدقائي، ودعوني ألملم من بقي من أبنائي”. الفضيحة التي شهدناها في الأسابيع القريبة الماضية تؤكّد أنّ فلسطين وأبناءها لم يجنوا شيئاً من وحدة الساحات إلا المزيد من اليأس والموت، فيما التجارة بدمائهم ما زالت رائجة.

 

لمتابعة الكاتب على X:

@allouchmustafa1

مواضيع ذات صلة

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…

مآلات الحرب على كلّ جبهاتها: سقوط المحور

لم تنتهِ بعد حرب الشرق الأوسط المتعدّدة الساحات والتسميات.. طوفان الأقصى والسيوف الحديدية والإسناد إلخ…. لذا لن تكون قراءة النتائج التي أسفرت عنها نهائية حاسمة،…