محطّات عدّة مرّت على لبنان، ولطالما عاكست الظروف التي واكبت هذه المحطّات مصلحة المواطن، وساهمت في إبقاء الأداء المشين لـ”الطبقة الحاكمة” على ما هو عليه.
آخر هذه المحطّات كانت أمنيّة. بين جريمة قتل الصرّاف محمد سرور وتصفية المصرفيّ باسكال سليمان، والردّ الإيراني على الهجوم الإسرائيلي على السفارة الإيرانية في سوريا ضاع الوطن من جديد. اليوم، وكأنّ الاضطرابات الأمنيّة في المنطقة تُعطي مكوّنات الطبقة الحاكمة في لبنان الحجّة والعذر لتأجيل كلّ شيء. تأجيل انتخاب رئيس للجمهورية، تأجيل أيّ خطوة إصلاحية. تأجيل توفير البديل للموادّ التي أبطلها المجلس الدستوري في قانون الموازنة العامّة لعام 2024، تأجيل العمل على الالتزام ببنود الاتفاق المبدئي مع صندوق النقد الدولي، تأجيل أيّ خطوة إصلاحية قد توفّر مساحة لإنقاذ الاقتصاد والمواطن في لبنان، تأجيل إقرار أيّ إصلاحات لإبعاد لبنان عن اللائحة الرماديّة وتصنيفه غير متعاون في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب من قبل مجموعة العمل المالية الدولية (MENA-FATF)، وتأجيل اتّخاذ القرار الضروري لتأمين السحوبات من الحسابات المعنونة بالدولار المحلّي الذي ينتظره المودع المتقاعد الذي لا حول ولا قوّة له في توفير التمويل اللازم لفاتورة الاستهلاك إلا ممّا توافر في حسابه بالدولار المحلّي.
هل تقاعس الطبقة الحاكمة عن أداء واجباتها اتّجاه الوطن والمواطن. هو عذر كافٍ لمكوّنات القطاع الخاصّ لعدم أو تأجيل إطلاق عجلة إعادة ترميم الثقة وتنظيم العمل بينها وبين مكوّنات المجتمع اللبناني في ظلّ غياب تامّ للرقابة والمساءلة والمحاسبة؟ يجب أن يكون الواقع عكس ذلك. القدرة الاستثنائية التي أظهرتها مكوّنات القطاع الخاصّ على الصمود والتأقلم مع المتغيّرات الاقتصادية. هي أمر يُعَوّل عليه ويجب البناء عليه لاتّخاذ ما توفّر وما هو ممكن من الخطوات الإصلاحية وتصويب الأداء.
صمد القطاع الخاصّ وتأقلم مع المتغيّرات الاقتصادية من دون عون أو مساعدة من السلطة الحاكمة
لن يكون من الممكن إنقاذ الاقتصاد إن لم يكن هناك قطاع مصرفيّ فاعل يقدّم الخدمات المصرفية التي يحتاج إليها كلّ مواطن وتحتاج إليها كلّ مؤسّسة عاملة في لبنان. لذلك في ظلّ المماطلة التي تُظهرها الحكومة والطبقة الحاكمة ومصرف لبنان في إعادة الانتظام إلى العمل في القطاع المصرفي. على القطاع المصرفي أن يأخذ المبادرة لإطلاق مسيرة تصحيح وتصويب الأداء.
الذهنية التصحيحية
جزء أساسيّ من مسيرة الإصلاح في القطاع المصرفي اللبناني هو إطلاقها بذهنية تصحيحيّة إصلاحية والاعتراف بالذنب وتحديد نوع الأخطاء وطبيعتها ومن أخطأ. هناك من أخطأ:
1- بعدم دراسة ملفّ التسليفات (أو التوظيفات) بالجدّية والشفافية والموضوعية المطلوبة.
2- بتوظيف أموال المودعين.
3- بتقويم المخاطر الحقيقية، واكتفى بما طُلِب منه من قِبَل الهيئات الرقابية.
4- بتقويم نسبة السيولة التي يتوجّب توافرها ومخاطرها. وخصوصاً لتسهيل الإفراط في التوظيفات (أي اختيار التوظيف من أجل تحصيل الإيرادات عوضاً عن توفير السيولة لتلبية طلبات المودعين عند الضرورة وعند الطلب). وهناك من علِمَ بكلّ هذه المخاطر وغضّ النظر.
5- إلخ!
الحقيقة وبصريح العبارة أنّ بعض رؤساء مجالس الإدارة ومديرين عامّين اعتمدوا واتّكلوا على مهنيّة ومناقبيّة مديريهم التنفيذيين ووافقوا على اقتراحاتهم من دون الخوضِ بالتفاصيل التي قد تكون:
أ- مملّة لهم.
ب- تُظهر بعض الثغرات أو الضعف في معرفتهم لبعض التقنيّات في العمل المصرفي.
ج- تقدّمهم في العمر (وهذا حال معظم رؤساء مجالس الإدارة) دفعهم إلى خيار عدم الخوض بالتفاصيل.
اليوم الكلّ واعٍ لنوع وحجم المشكلة والأخطاء. وفي النقاشات الجدّية والداخلية، الكلّ يعلم ما هي طبيعة الأخطاء وحجمها ومن ارتكبها ومن ساعد على ارتكابها.
وكأنّ الاضطرابات الأمنيّة في المنطقة تُعطي مكوّنات الطبقة الحاكمة في لبنان الحجّة والعذر لتأجيل كلّ شيء
حتى تاريخ اليوم، وبعد مرور أكثر من أربع سنوات على الأزمة الاقتصادية المتعدّدة الجوانب. يبقى صمت المصارف والمصرفيين على ما هو. وصَمتُهم يُدينهم! الصمت هو الوجه الآخر للانتظار والمماطلة، وهما نقمة المواطن! عوضاً عن توفير السيولة من أجل السحوبات لسدّ حاجة المودعين. وأشدّد هنا على “حاجة” وليس “رغبة” المودعين لأنّ هذا ممكن. وخصوصاً عند المصارف المقتدرة والقادرة على الاستمرار في خدمة الاقتصاد، ذهبت المصارف إلى استثمار وتوظيف سيولتها خارج لبنان بمباركة من المصرف المركزي.
ارتفاع نسبة الفوائد على الدولار في أميركا وغياب الحلول محلّياً لجهة تنظيم العلاقة بين المصارف والمودعين (خصوصاً السحوبات من الحسابات المعنونة بالدولار المحلّي) عادا بالمنفعة على المصرفيّين (كبار المساهمين) والمصارف التجارية في لبنان، لكن على حساب المودع. تستفيد مجموعة من كبار المساهمين، والبعض منهم سياسيون أو محصّنون سياسياً، والمصارف من فوائد تصل إلى 5% و5.13% سنويّاً. في الوقت الذي توقّفت فيه المصارف نهائياً عن دفع الفوائد على الحسابات لأجل، على الرغم من أنّ المصارف أبقت هذه الحسابات مصنّفة لأجل، من أوائل 2020، من خلال توظيف ما تيسّر لها من سيولة بالدولار الأميركي لدى مصارف غير مقيمة (مصارف أجنبية خارج لبنان)، ومن الطبيعي أن يكون مصرف لبنان على علم بذلك.
هذه الأرباح، وفي الوقت الذي توقّفت فيه المصارف عن الإيفاء بالتزاماتها اتّجاه المودعين:
– إمّا تُستثمر لتمكين هذه المصارف من العودة إلى خدمة الاقتصاد، أفراداً ومؤسّسات، كما كان الأمر في 2018 وقبل.
– أو تُعتبر، أي هذه الإيرادات، إثراء غير مشروع وتؤخذ الإجراءات المناسبة بحقّ المصرف والمصرفيين وكلّ من هو مستفيد.
إنقاذ لبنان لن يكون إلا من خلال مبادرات من قبل مكوّنات القطاع الخاصّ
المطلوب اليوم
المطلوب اليوم اليوم هو المباشرة بالمحاسبة، والوقت ليس لمصلحة المصرف ولا لمصلحة الاقتصاد. لكنّه قد يكون لمصلحة “المصرفيّ” والسلطة السياسية التي كانت السبب وراء هلاكنا اقتصاديّاً. وهنا يجب التحديد، وبموضوعية وشفافية. إذا كانت الأخطاء آتية من رحم فشل و/أو ضعف في الأداء، أو الدافع كان الاختلاس والسرقة. وكلّ مصرف عنده ما يكفي من المعطيات لإتمام هذه المهمّة (تقويم الوضع الداخلي لكلّ مصرف على حدة وإصلاح الذات) بمهنيّة وعدالة.
إقرأ أيضاً: مفاوضات صندوق النقد: لبنان في حالة موت سريريّ
مكوّنات القطاع المصرفي، أمام خيارين: إمّا أن يُفرَض عليكم “حلٌّ ما” تحت عنوان الإصلاح لكن بإيحاء من فاسد، أو أن تبادروا وتباشروا إقرار خطوات ضرورية وأساسية لترميم الثقة، وتصويب الأداء لتعميم الانتظام في العمل المصرفي ولو بحدّه الأدنى. على المصارف فتح وتفعيل قنوات التواصل الإيجابي والمنتج مع مكوّنات المجتمع اللبناني للعودة إلى تفعيل العمل بوسائل الدفع المتاحة من خلال القطاع المصرفي. عودة الحياة إلى القطاع المصرفي اللبناني لا تعني بالضرورة عودة الحياة إلى كلّ مصرف تجاري عامل في لبنان!
* خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد.