أُدين رئيس حكومة باكستان السابق عمران خان بالفساد وتعريض الأمن القومي للخطر والإساءة للدين الإسلامي، وحُكم عليه بالسجن لمدّة 31 عاماً. وهو اليوم يقضي هذه العقوبة في سجن مدينة روالبندي.
عمران خان ليس الأوّل
ليس عمران خان أوّل رئيس حكومة باكستاني يواجه مثل هذا المصير. فقد سبقه إليه كثيرون. وربّما معظم الرؤساء السابقين. وفي الأساس ما كان عمران خان ليصل إلى الرئاسة بالأصوات الشعبية التي حصل عليها فقط، لكنّه وصل بدعم قائد الجيش الجنرال عاصم منير. اليوم لم يعد قائد الجيش مرتاحاً إليه. فانقلب السحر على الساحر على الرغم من أنّه لا يزال يتمتّع بالأكثرية في مجلس النواب.
في زنزانته في السجن يقضي نواز شريف معظم وقته في مطالعة كتب التاريخ والعلوم السياسية. والكتاب الأهمّ الذي يهتمّ به هو للشاعر الصوفيّ الرومي. ومشهور عنه قوله: “اعتقدتُ أنّني على درجة عالية من الذكاء بحيث أستطيع أن أغيّر العالم فما استطعتُ. رأيتُ أنّ من الأفضل أن أكون أكثر واقعية وأكثر حكمة، ولذلك قرّرتُ أن أغيّر نفسي”. فهل ينتقل عمران من محاولة تغيير باكستان إلى تغيير نفسه؟
لا يتوقّف الأمر على عمران خان. الأمر متوقّف بالدرجة الأولى على الجيش وقيادته. ففي عام 2018 تبنّى الجيش ترشيحه لرئاسة الحكومة ودافع عنه وأيّده بكلّ إمكاناته. أمّا الآن فلم يعد يرى عنده الولاء الكافي، وبالتالي لم يعد المرجع الصالح. فعمل الجيش على إخراجه من السلطة على الرغم من أنّه فاز بالأكثرية المطلقة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة.
الشقيقة الكبرى لباكستان، الهند، لم تعرف هذه المعادلة. فهي توصف بأنّها الديمقراطية الكبرى في العالم (1.2 مليار إنسان بينهم 200 مليون مسلم)، والرئيس نارندرا مودي يعتمد على الحزب الهندوسي في تعزيز شعبيّته وتوسيعها، وهو ما يضمن له البقاء في السلطة. لا يوجد في الهند دور سياسي لقائد الجيش، لا تحت الطاولة ولا فوقها.
تملك باكستان ترسانة نووية، إلا أنّ تعثّرها الاقتصادي يجعل منها قنبلة موقوتة في منطقة متفجّرة
اليوم تُعتبر الهند من الدول الكبرى المؤسّسة لتنظيم دولي مع البرازيل والصين والاتحاد الروسي، وتتمتّع باقتصاد قويّ يعتمد على الصناعات الإلكترونية. غير أنّ شقيقتها باكستان تعاني من اقتصاد متدهور ومن تضخّم حجم الديون الخارجية، وتنتظر الآن موافقة البنك الدولي على صيغة ما لإخراجها من خطر الانهيار الاقتصادي للمرّة الخامسة والعشرين، علماً بأنّ عمر باكستان هو 77 عاماً.
أدّى تقسيم القارّة الهندية إلى دولتَي الهند وباكستان (الشرقية والغربية) في عام 1947 إلى سقوط مليون قتيل. ثمّ أدّى انفصال باكستان الشرقية (بنغلادش) عن باكستان الغربية إلى سقوط مليون قتيل أيضاً. الحرب الأولى كانت دينية بين المسلمين والهندوس. والحرب الثانية كانت قومية حول أيّ لغة رسمية تعتمد الدولة الجديدة: البنغالية (لغة بنغلادش – باكستان الشرقية) أو الأردية (لغة باكستان الغربية)؟
اليوم تواجه باكستان تداعيات ما بعد الانسحاب الأميركي من جارتها أفغانستان، ذلك أنّ لحركة طالبان الأفغانية امتداداً في باكستان، حيث وُلدت في الأساس، لكنّه امتداد مستقلّ ومعادٍ للجناح الأفغاني ويُعرف باسم “تحريك طالبان”.
باكستان تدفع الثمن
أدّى الصراع على أفغانستان والصراع معها إلى استنزاف اقتصادي واجتماعي لا تزال باكستان تدفع ثمنه غالياً. وزاد الطين بلّة تعرّض باكستان لفيضانات جرفت الأخضر واليابس من الزرع، ولهزّات أرضية دمّرت قرى وشرّدت مئات الآلاف. وبعد الانسحاب الأميركي من أفغانستان، عادت مخالب حركة طالبان للنموّ من جديد، وبدأت تهدّد الأمن الباكستاني في مناطق الحدود حيث يكاد لا يمرّ أسبوع دون وقوع اشتباك مسلّح يذهب ضحاياه جنود ومواطنون باكستانيون من أهالي القرى المجاورة.
أدّى استمرار النزف وتصعيده إلى استمرار الدور الاستثنائي للجيش ولقائده، وهو ما يشكّل المعادلة الخاصة التي تقوم عليها الحياة السياسية في باكستان حتى اليوم.
يستطيع قائد الجيش لما له من نفوذ وسلطان توفير “الشرعية” اللازمة للحكومة الحالية
في آذار الماضي قام قائد الجيش بزيارة السعودية التي تُعتبر الظهير العربي الأوّل لباكستان والداعم لها اقتصادياً وسياسياً منذ عقود طويلة. ثمّ زار القيادة العسكرية الأميركية في واشنطن بالولايات المتحدة. وتشكّل الرياض وواشنطن جناحَيْ الطائر الباكستاني في مواجهة العواصف السياسية – العسكرية التي تضرب المنطقة.
من هذه العواصف، سوء العلاقات بين الهند وباكستان. ومنها أيضاً القلق الأميركي – الهندي المشترك من أن تجد باكستان نفسها مضطرّة إلى الارتماء في الحضن الصيني اقتصادياً وحتى عسكرياً.
تملك باكستان (242 مليون مواطن) ترسانة نووية (مثل جارتها الشقيقة الهند)، إلا أنّ تعثّرها الاقتصادي يجعل منها قنبلة موقوتة في منطقة متفجّرة. وربّما أبرز مظاهر التعثّر الاقتصادي يتمثّل في شركة الطيران التي تملكها الدولة. فالإحصاءات الرسمية تقول إنّ كلّ طائرة مدنية تملكها الشركة (الحكومية) يقوم بخدمتها أكثر من 550 مهندساً وموظّفاً وعاملاً!! ولذلك تحوّلت الشركة كالعديد غيرها إلى عبء على الدولة واقتصادها.. بدلاً من أن تكون رافعة له.
يقضي الآن رئيس الحكومة السابق سنوات الحكم في سجن روالبندي بين القراءة وقيادة الدراجة الثابتة، فيما يتحرّك رئيس الحكومة الحالي شهباز شريف ممثّل منظّمة الجماعة الإسلامية بدعم من قيادة الجيش لجمع أكثرية برلمانية كافية تمكّن حكومته من شقّ طريقها وسط الصعوبات الماليّة والاقتصادية المعقّدة التي تواجهها والتي تنعكس بصورة مباشرة على التزاماتها وعلى خياراتها السياسية، بما في ذلك، بل وفي مقدَّم ذلك، التزاماتها مع دول مجلس تعاون الخليج العربي.
إقرأ أيضاً: صناعة التاريخ بـ”الحرب”.. عندما تتكدّس الجثث
يستطيع قائد الجيش لما له من نفوذ وسلطان، توفير “الشرعية” اللازمة للحكومة الحالية. ولكنّ السؤال هو: هل يستطيع أن يجد حلّاً للمشاكل الماليّة والاقتصادية التي تواجهها الدولة؟ حتى عمران خان لن يجد جواباً على هذا السؤال في كتاب المتصوّف الرومي.